في المثيولوجيا الشركسية لابد وأن تحتل المياه المكانة الرائدة ولا بد أن يتربع الإله المختص بتصريف المياه "بسه تحه"وكذلك شبله مكان الصدارة في مجتمع الآلهة الشركسية باعتبارهما الأكثر قوة ووفرة وتنوعا ..تنساب المياه العذبة رقراقة تتلوى جداول عبر الصخور الجبلية ناعمة هادئة لتتلاقى مشكلة انهارا سريعة صاخبة تبدو غاضبة وقد تكون قاتلة .والمياه الحارة التي تكتسب حرارتها من المرجل الأرضي الضخم ينسبها الشراكسة إلى دموع ساوسروقة المدفون حيا تحت الأرض تقول الأسطورة ( لأن ساسروقة يرقد تحت الرض حيّاً فإنه يحاول العودة إلى هذا العالم الواسع يبذل جهدا للعودة إلى الأرض ليطرد منها الأشرار والآثمين .وكلما بذل جهدا للعودة على هذا العالم تسيل دموعه بسبب الجهد ..
إن الينابيع الحارة التي تسيل من سفوح جبال القفقاس هي دموع ساسروقة "بما أنني لم أعد استطيع أن أساعد الناس فليستفيدوا من دموعي الحارة " هكذا يقول ساو سروقة ..المرضى الذين يبللون أجسامهم بدموع ساوسروقة يعودون أصحاء تماما والمياه المعدنية التي لها أشكالا مختلفة وأسماء أكثر اختلافا واستطبابات كثيرة تجعل للماء في القفقاس قدسية خاصة .فالماء يلعب وسيطا يجمع بين الإنسان ورغباته والإله وتقبل تلك الرغبة وهو العنصر الذي يمتلك ميزة التطهير من الآثام والخطايا مثلما يمتلك القدرة على غزالة الدنس والقذارة ..وهو في الوجدان الشركسي يتمتع بموروث غني نحاول أن نسلط بعض الضوء عليه..
إن الأسطورة والطقس إنما هما انعكاسان واضحان لانفعال الجماعة المتشكل على صعيد الفرد الذي تسيطر عليه هواجس المرض والموت والخوف والجوع صعودا على مستوى الجماعة حيث تؤثر المجاعة والجفاف الحروب والكوارث على اختلاف أنواعها بحيث يصبح الطقس على تماس مباشر مع القوى العليا الفوق طبيعية التي تهيمن على الإنسان وتسيطر عليه خلال وجوده كله منذ ان يفتح عينيه مولودا وحتى يغلقهما ميتا هذه المادة الأسطورية تنتج حركة انفعالية طقسا تعبديا غايته السيطرة على هذه القوى القوى المهيمنة أو تحييدها أو الاستقرار تحت جناحها عبدا لها فالطقس غايته (دوام الصحة والثروة والرخاء من جهة واستمرار الانسجام والأمن و تماسك المجتمع من جهة اخرى ) عدا الطمع بالمكافأة الإلهية من النعيم والجنة .
ونحن نذكر طقوس" حانسه غواشه " الرمزية لاستجلاب المطر والمر هنا يتعلق بدمية مصنوعة من قطع خشبية متصالبة مطبقة فوق بعضها وملفوفة بالقماش بشكل يشابه زيي النساء في المنطقة فإذا حل الجفاف يأخذ اثنان من الأولاد حانسه غواشه ويمرون على البيوت حيث يسكبان الماء على الدمية عند كل بيت وهما يغنيان :
إننا نطوف بحانسه غواشه
فليرسل الإله المطر من أجلنا
وإذ قابل الولدان أثناء تطو افهما رجالا صب هؤلاء الرجال الماء على حانسه غواشه وعلى الولدين الذين يحملانهما كما ترمى كل ثياب الرجال الذين يقابلون الولدين في جدول أو في مجرى ماء قريب من نقطة اللقاء وعلى هؤلاء الرجال أن لايعارضوا واخيرا تلقى الدمية في الماء وتترك ثلاثة أيام ثم تؤخذ من هناك ويحتفظ بها للمرات القادمة ) لقد أتت طقوس الحانسه غواشه مع الشراكسة من القفقاس الى الجولان السوري , ومارسوها في تركيا , لقد كان الروس يمارسون ذات الطقوس , كما كان الداغستانيون يمارسون ذات الطقوس تحت اسم (حمار المطر)...ويقول رسول حمزاتوف (الأديب الداغستاني الشهير) :
( الأرض تتشقق والصخور تنفث الحرارة كالمدافىء المتوهجة, الأشجار تتهدل والحقول تيبس, وكل شيء يصبح في شوق إلى ماء السماء , إلى المطر, النباتات , العصافير, النعاج , والناس طبعا. حينئذ يأخذون طفلا صغيرا من أطفال القرية ويلبسونه , كما تلبس الهنود لباسا من أعشاب متنوعة ذبلت تحت وهج الشمس, هذا هو حمار المطر ثم يقودونه من برسنه أطفال مثله في أنحاء القرية , وهم ينشدون معا أغنية هي بمثابة صلاة ودعاء :
اللهم أرسل علينا مطرا..
لينهمر الماء من السماء إلى الأرض
لتزقزق وتسق سق ينابيعنا
اللهم اسقنا الغيث
أيتها الغيوم غطي السماء
أيها المطر انهمر علينا كالنهر
فتغسل بك أرضنا الطيبة
وتخضر بك حقولنا من جديد
ويتدفق الكبار إلى الطرقات ويهرعون إلى حمار المطر يصبون عليه الماء بعضهم من الجرار وبعضهم من الطاسات مرددين إثر أغنية الأطفال آمين آمين)
من السذاجة أن نعتقد أن حدود هذه التمثيليات الطقسية تقتصر على تقليد الإله في أحداث البلل إن الغطس الذي يمارسه الشراكسة في الماء هو الطقس البرهمي الهندي وهو يغطس في الغانج متخلصا بذلك من خطاياه ومحققا ولادة جديدة وحانسه غواشه التي تبقى مستلقية لمدة ثلاثة أيام في الماء تقوم بشكل رمزي بالتطهر والتخلص من الخطايا التي حملتها أهل المنطقة عندما دارت على بيوتهم وهي عندما تقوم في اليوم الثالث وتخرج من الماء فإنما هي تولد من جديد ويولد مع ولادتها جميع سكان المنطقة الذين شاركو في طقوسها .
وعلى مستوى آخر نجد أن المياه تلعب دور الوسيط بين المريض الذي يطلب العون من الآلهة والآلهة نفسها لأن المرض ناتج عن تراكم الذنوب والاحتكاك بالماء هو السبيل إلى غسل تلك ذنوب وبالتالي هو الطريق إلى الشفاء ولم يكن الأبخاز ينظرون (إلى المرض على انه حدث عادي ولكن الإنسان حين يرتكب الخطأ فإن مرضه يعزي إلى إساءته التصرف ولدى التحية يجري الحوار التالي
كيف هي صحتك..إنني معافى فأنا لم أقترف ذنبا
ولو كان هذا الأبخازي مريضا لوجب عليه الاحتكاك بالماء غسلا للذنب وطلبا للشفاء (والكمر كوي يستعملون الماء الذي نفخ فيه الدعاء ثلاثة مرات والمرأة العاقر تؤخذ الى النهر لتغطس فيه ويلقون بيضة في إثرها وإذا كانت المرأة لوهوسا شحيحة الحليب فإنهم يصبون الحليب في ماء النهر )لقد كانت قوة الماء حاضرة حتى في طقوس التشابشه الشركسية التي تقام على شرف المريض الراقد في الفراش لمنع النوم عنه ليلا ..
وعلى المستوى النارتي نجد ان نارت سانه المقاتلة تقتل حبيبها دون أن تدري أنها تقتل روحها ومع الحزن الذي يعصر كل كيانها توجه سلاحها لتغرزه في فلبها وليسيل دمها مختلطا بدم الحبيب ويقال انه في ذلك الموقع انفجر نبع نارت سانه ويقول الشراكسة إن مياه النبع تفيد الحيوية والنشاط ومياهها تشفي القلوب العليلة
ونجد علاقة بين الماء وولادة النارتي سوسروقة العجيبة فالطفل النارتي المتقد يغطسه "لبش" إله الحدادة عند الشراكسة في الماء سبع مرات ويعمده سبع مرات فيصبح نارتيا صلدا ويلعب الماء دوره في عملية الولادة الثانية لسوسروقة عندما لملمت ستناي أجزاء جثته المتناثرة وأعادت ترتيبها ثم جمعت الندى من الأوراق الخضراء وقامت بغسل جسده بما يليق وسليل الآلهة ثم أتمت غسل وجهه بدموعها ليفتح ساوسروقة عينيه من جديد ليولد من جديد .
إن اتحاد الهيدروجين مع الأكسجين يخلق مركب الماء الذي يتفجر حياة بحيث يفيض من قوته على العالم تلك القوة التي تقبض على الحياة كما تمسك بالموت ..وهو ذلك السائل الهادئ النائم كما أنه ذلك البحر الهائج المرعب ..الماء هو الشافي وهو القاتل .ثنائية الموت والحياة التي طغت وما زالت وستبقى موجودة في ذلك السائل الشفاف
(مقتبسة من مجلة إلبروز للكاتب بشار ابراهيم حلاو)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق