إن كل من يتناول الحكاية بالبحث سوف يجد نفسه ينتقل من شاطئ إلى آخر دون أن يدرك أنه يتجاوز الحدود بين الحكاية التقليدية والأسطورة بين الملحمة والحكاية الخرافية بين الحكاية الإخبارية والحكاية الشعبية إذ من الصعب وضع معايير واضحة لهذه الأنواع من السرد القصصي ومع ذلك هناك محاولات لرسم الحدود بين هذه الأنواع فالسطور حسب فراس سراح (هي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان) هي غذت حكاية مقدسة لم يكن يرويها الجد لحفيده قبل النوم وإنما رويت في زمن مقدس ومكان مقدس
وهي قصة تلعب فيها الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية وعليه فإنها عالجت المواضيع والمعتقدات الدينية القديمة ثم عن مؤلف الأسطورة غائب تماما فالأسطورة ناتج فكر جماعي صيغت اسطره بشكل تراكمي بما يتوافق مع الحالة الوجدانية والأخلاقية والنظرة الخاصة بخلق الكون وطرق التعامل مع الآلهة بدءا من الصلاة والدعاء والابتهال إلى التقرب إلى من هذه الآلهة بتقديم الأضاحي والنذر
يقول ممدوح قوموك في مدخله إلى ملاحم نار الشركسية (الأساطير ..تعكس عادات الشراكسة وتقاليدهم ونظرتهم إلى الآلهة والإنسان والطبيعة والكون وتناقلتها الأجيال المتعاقبة عبر قرون طويلة بشكل أناشيد وأغاني وابتهالات دينية وقصائد ونصوص نثرية وملاحم شعرية )
إن النص الذي أورده ممدوح في كتابه والذي يحمل عنوان (طعام لساوسروقة في عالم الأموات) هو مثال حي يعكس المعتقد الشركسي الذي ساد الزمن النارتي حول تقديس الأرواح وحول الطعام الجنائزي الذي كان يقدم للأموات قبل الأحياء
تقول أسطورة :( طعام ساوسروقة في عالم الأموات )
"عندما هبط الظلام على أحد الشراكسة وهو في طريقه إلى الغزو رقد على تلة ونام فوقها وتبين أنها كانت مقبرة سوسروقة وهكذا بينما كان الرجل راقد في الليل فوقها رأى حلما :
اقترب احدهم ونادى
- ياسوسروقة
- ماذا؟
- تعال , النارتيون يحتفلون
- كيف آتي وعندي ضيف؟
غاب الصوت ليعود بعد فترة
- ياسوسروقة
- ماذا؟
- لقد سمحوا بحضور الضيف
- ماذا؟
- لقد سمحوا بحضور الضيف
- إذا هيا بنا نبدأ أيها الضيف
عندما وصل سوسروقة وضيفه كان النارتيون يتحلقون خلف المائدة العامرة يأكلون ويشربون جلس الضيف ولكن ساوسروقة بقي واقفا ولم يسمح له بالجلوس وبعدما انتهى الجمع من الطعام وغادر سارع سوسروقة إلى التهام قليل من الفتات المتبقي ثم قفلا عائدين دفع الفضول بالضيف إلى السؤال
- مالأ مر ياسوسرقة ؟ لم أر بين الذين كنا عندهم من هو أفضل منك لماذا لم تدع إلى المائدة؟
- لقد كنت آخر النارتيين ولم يبق من يقدم لي طعاما في عالم الأموات وهذا سبب معاملتهم لي بهذه الطريقة ,انطلق في طريقك وستحقق غايتك وعندما تعود لإهلك لاتبخل علي بطعام في عالم الموتى
عندما عاد الرجل إلى أهله وقد حقق غايته قدم عددا كبيرا من الموائد على أنها طعام لسوسروقة في عالم الموتى ودعا الناس غليها
عاد الرجل إلى التلة ونام ليلته هناك وفي المنام راوده الحلم مرة أخرى سمع صوتا ينادي
- ياسوسروقة
- ماذا؟
- النارتيون يشربون خمر العنب ويحتفلون تعال
- عندي ضيف
- احضر الضيف معك
اصطحب سوسروقة ضيفه إلى الاحتفال حيث استقبله النارتيون بحفاوة وأجلسوه والضيف في الصدارة "
هكذا يروون كيف قدموا لساوسروقة طعام في عالم الموتى هذا النص يسلط الضوء على الأهمية القصوى للحده أوس فالطعام الجنائزي هو ركن أساسي من أركان انتقال الميت من عالم الأحياء إلى عالم الأموات وغياب هذا الركن سوف يعيق الميت ويجعله معلقا في برزخ بين العالمين فلا هو حي بين الأحياء ولا الموتى يعترفون بحقوقه كميت والتهاون في استكمال طقوس الدفن بإقامة شعائر الحده أوس كان يعرض أقرباء وأهل الميت المتقاعسين إلى غضب الروح التي كانت تسلط عليهم لعنتها بنشرها الأمراض والشرور إن مثل هذه العقيدة في التعامل مع الرواح كان سائدا في أغلب حضارات العالم القديم بما فيهم حضارة السند والميؤت الشركسية زمن المستعمرات الإغريقية على شواطىء البحر السود القفقاسية بل يعود على زمن أقدم حيث سادت حضارة السارمات لقد تبين من المدافن القديمة في القفقاس أنهم كانوا يدفنون مع الموتى مقتنياتهم الثمينة وأسلحتهم وغذاء لهم وقد وجدت آثار الأطعمة في أوان فخارية داخل القبور كما كانوا يولون الولائم لهم بعد الموت بجانب قبورهم ضمن شعائر وطقوس خاصة
أما مايميز الحكاية الشعبية عن الأسطورة وعن الخرافة والملحمة فهو اهتمامها الحي بالمضامين الاجتماعية لحياة الإنسان (الزواج ,الطلاق, السعادة, الشقاء,الحب, الغيرة, الفقر, الغنى,الجمال, ..الخ)
يقول السواح : (موضوعاتها تكاد أن تقتصر على مسائل العلاقات الاجتماعية والأسرية منها خاصة) ويصادق على هذا القول عز الدين سطاس في كتابه الأدب الشركسي القديم _حكايات شعبية_ ( الحكاية الشعبية قصة تتناول حياتنا والأمور الدنيوية العادية والعلاقات الاجتماعية والمسائل التربوية وتهدف إلى خير الإنسان وسعادته ) الحكاية الشعبية التقليدية تعالج العمق الاجتماعي عن طريق الفعل ورد الفعل اصطدام الشر بالخير ولنا أن نلاحظ في الأسطورة الشركسية والحكاية أيضا الدور الحاسم للمرأة الزوجة الابنة والعرافة وهي تلعب دور الحكمة والفكرة وهي تقوم برسم الخطوط النظرية لمعركة الخير والشر الذي يجب ان يتوج فيها الخير حتى تنتهي الحكاية بالعبارة التقليدية
كان يا ماكان في سالف العصر والزمان
كان هناك في إحدى القرى أمير تجبر وطغى وبعدد أمواله الكثيرة كانت أفعاله شريرة ..غدا غضب وثار حل البلاء والدمار وإذا وقع في قبضته مسكين أعطاه للجلاد أو للسكين
في يوم من الأيام عاد الأمير من الصيد ولكن جعبته كانت خاوية يلعب فيها الهواء لم يستطع الأمير من اصطياد دب أو حتى القبض على صغير أرنب حتى العصافير اختفت وفي الهواء تبخرت
عاد خالي الوفاض لكنه بالغضب قد فاض.. اجتمعت القرية للاستقبال والترحيب بعودته والاحتفال ولكن الأمير سيطر عليه الحنق والانفعال ونظر إلى الرجال واختار من بينهم المسكين أوناؤت وقال:
- أنت أوناؤت ..اسمع عليك إن تسلخ جلد هذه الصخرة ولا تتأخر عن الغد وإلا الموت لك هو الحد ..صعق الفلاح المسكين
- يا إلهي وهل تسلخ الصخرة؟
- اخرس إلى الغد..وصرخ الأمير وهدد
عاد أوناؤت إلى بيته مهموما حزينا دخل الدار دون أن يلق التحية على ابنته الحبيبة
- أرى هناك ما يشغل بالك ويزعج مزاجك حتى نسيت إلقاء السلام وعزفت عن الكلام ..روى العجوز ماجرى..
- أوه يا أبي لاتغتم ولاتهتم فإن الصباح رباح وحتى يكون الغد قد حل سوف أجد لك ألف حل
- ولكن أنى للنوم أن يعانق الجفون والعجوز على موعد مع المنون
- تمدد مشى ثم عاد واضطجع ثم جلس خرج إلى الفناء عاد على الغرفة ولم يتمكن من النوم حتى صاح الديك مبشرا بولادة يوم جديد
- صباح الخير يا أبي كيف أصبحت؟
- على ما ترين في أسوأ حال
- أوه يا أبي أنت دائم التشاؤم انظر إلى نصف الكأس الممتلئ واصرف النظر عن النصف الفارغ خذ هذه السكين لتسلخ جلد الصخرة
- ماذا..!!! وهل حقا تريدين إن أسلخ الصخرة اللعينة؟
- نعم يا أبي ولكن يا أبي العادة هي العادة والخابزة قانون ولا يجب على الأمير تجاوز الأعراف عليه أولا أن يذبح صخرته إذ أن الشاة لاتسلخ إلا بعد الذبح
الحقيقة كانت دهشة الأمير عظيمة عندما قال له أوناؤت
- أيها الأمير حسب العرف عليك أن تذبح صخرتك وأنا جاهز لسلخ جلدها
- ضج أهل القرية بالضحك ولأول مرة لم يشعر الأمير بالغيظ بل بالفضول فمن أين لهذا الرجل بالفطنة؟ وهل هبطت عليه من السماء فجأة؟
وبعد السؤال والجواب طلب الأمير رؤية الابنة الذكية التي كانت إلى جانب ذكائها جميلة
- إن مثل هذه المرأة سوف تكون خير أم لأولادي
تزوج الأمير وبفضل الزوجة الحكيمة صار أكثر الناس قربا من أهل القرية الذين أحبوه وأحبهم
نلاحظ هنا أن لاهوية للأحداث فالقرية أية قرية والشخصيات يمكن أن تتواجد ضمن أي مجتمع والزمان هو أمس واليوم والغد ومن هنا تستمتد الحكاية الشعبية استمراريتها وقدرتها على البقاء فالأمير هو الملك الإقطاعي ,النبيل ,رب العمل, الموظف المسؤول, ..الخ وهو يمثل هنا قوى الشر ..وأوناؤت هو الفلاح البسيط .العامل .المواطن. أما الابنة فهي الحكمة ,الحل .الوسيلة إلى الخلاص, الخير ,والخير على الأغلب هو الذي يربح في النهاية
والحكاية قد تتجاوز الحدود التعليمية وتمس المضمون الأسطوري كبدء الخلق مثلا وقد يشارك الحيوان في رسم هذه الصورة:
يقال: إن ثعلبا وسلحفاة وجدا طبقا من العسل كانت الكمية شحيحة لاتكفي كليهما لذا اتفقا على أن يستحوذ أكبرهما سنا على العسل ..وذلك حسب أعراف الشراكسة ..وعلى ذلك راح الثعلب يبين كبر سنه:
_ كانت الأرض بين الميوعة والتخثر.. بالكاد قد بدأت بالتصلب ..وعلى تلك القطع التي تشكلت .. كنت أتنقل قافزا من قطعة إلى أخرى ..
هنا صاحت السلحفاة :
- أي أي توقف أيها الملعون إن تلك القطع التي كنت تقفز عليها هي ظهور أولادي
وهكذا فازت السلحفاة بطبق العسل
هناك نوع آخر من الحكاية هي (الحكاية الخرافية)
التي تمتلك جميع مقومات الحكاية الشعبية ولكنها تستخدم المبالغة إلى حد التهويل وتستدعي كائنات غير حقيقية مثل الغيلان والعمالقة والأقزام والكائنات المشوهة الشريرة على جانب الجان والأرواح يقول فراس سواح: ( الخرافة هي أكثر الحكايات التقليدية شبها بالأسطورة وهي تقوم على عنصر الإدهاش وتمتلئ بالمبالغات والتهويل وتجري إحداثها بعيدا عن الواقع حيث تتحرك الشخصيات بسهولة بينالمستوى الطبيعي والميتافيزيقي وتتشابك علاقاتها مع كائنات ماوراء طبيعة متنوعة مثل الجن والعفاريت والأرواح الهائمة ..والخرافة تتميز عن الأسطورة بأن راويها ومستمعها على حد سواء يعرفان منذ البداية إنها لاتلزم أحدا بتصديقها او الإيمان برسالتها )
ذات يوم قبض الأعداء على سوسروقة وهموا بقتله فاستوقفهم سوسروقة قائلا :
- أنا راض بأن تقتلوني ولكنني قبل أن أموت أحب أن اعرف ما عجزت عن معرفته طوال حياتي
- حسنا سنحقق لك ما طلبته
- كان هناك ثور عندما يقف بقائمتيه على جبل ,مشوقة, يصل على رأس جبل البروس وبذيله عندما كان يحركه كان يحطم كل ما حوله وذات يوم انقض نسر وخطف الثور وهناك في الأعالي مزقه واكل لحمه ورمى بعظامه إلى الأرض في هذا الوقت قصف الرعد وبدأت السماء تمطر ..ذعر الراعي الصغير فاختبأ تحت لحية تيس وعندما مد رأسه يستطلع سقط في عينيه شيء (قد تكون في عيني قشة سأجعل أمي تخرجها) عاد الراعي إلى البيت وأخرجت أمه من عينيه عظم لوح كتف الثور ورمته في البحر ومع مرور الأيام تحولت قطعة العظم إلى جزيرة في ا لبحر التجأ إليها الناس وبنو فوقها بلدة كبيرة وذات يوم اهتزت البلدة وتصايح الناس وإذ بثعلب ينهش العظمة جمع الزعيم مائتين من أتباعه وطاردوا الثعلب ولما قتلوه هموا بسلخ جلده وبعد أن سلخوا نصفه لم يتمكنوا من تحريك الثعلب لسلخ النصف الآخر فتركوه ومضوا .زفي الصباح خرجت امرأة تسوق أبقارها إلى المرعى فرأت الثعلب الميت فقلبته وسلخت نصف الجلد المتبقي (سأصنع منه قبعة لطفلي) وعندما تفحصت قطعة الجلد أيقنت انه لن يكفي لقبعة طفلها ..لقد عشت حتى اليوم ولا أدري أي من هذه المخلوقات هي الأكبر
- تكلم الأول
- انه الثور الذي غطى كل هذه المسافة ووصل رأسه الى البروس
- مجنون أنت وماذا عن النسر الذي اختطفه ؟
وتكلم آخرون فاختلفوا وتشاجروا ثم تقاتلوا وبقي واحد قتله ساوسروقة وعاد إلى بيته سليما معافى
إن الخط الفاصل بين الأسطورة الحكاية الخرافية واه ولكنه موجود الأسطورة تستمد قوتها من دنيويتها من مدى التصاقها بالواقع وقدرتها على الإجابة على الأسئلة المطروحة
وأخيرا إذا علمنا أن معهد الأبحاث الفلكلورية الاديغية قد جمع اكثر من ثمانية الاف حكاية فلنا إن ندرك مدى ثراء المكتبة الشركسية لقد تضافرت الجهود الحثيثة في جمع هذا التراث بدءا من العمالقة الجغواكوات مرورا بسلطان غيري وشورى نوغومو حاتخوشقو غازي والروس بارانوف وبولافين وماكسيموف ولن ننسى جهود حدغائه عسكر في جمع وتصنيف ملاحم نارت الشركسية في ستة مجلدات أنيقة وترجمة ممدوح قوموق لبعضها أثرى بها المكتبة العربية بباقة شركسية ..وعز الدين سطاس الذي قام بترجمة 18 حكاية بتصرف وقدمها القارئ باللغة العربية تحت عنوان من الادب الشركسي القديم حيث يقول: (لقد وعت الشعوب اهمية الحكاية الشعبية فجسدتها في كتب وافلام خاصة بالأطفال حفاظا عليها وعلى دورها في المسالة الثقافية ولعل اشد الأشكال الغزو الثقافي خطرا على الشعوب المختلفة هي تلك الكتب والافلام التي تغزو بيوتنا حاملة معها الكثير مما يخالف قيمنا وطموحاتنا ان التهاون في احياء الحكاية الشعبية وتعميمها يعني اضعاف الهوية وتدفع بالاجيال القادمة الى احضان ثقافات الاخرين وتسهل عملية سيادة العولمة
عمليا تجتاحنا اليوم موجة من افلام مصاصي الدماء المخلوقات الشريرة الغريبة العنف العشوائي القتل بطرق مبتكرة ان التشويق المصاحب لهذا النوع من الانتاج لايمكن مقاومته بالتعبير عن رفضنا له ونحن نتابع بشغف كل حاقاته نحن ببساطة شديدة نسمح للآخرين باستعمار عقولنا وبالتالي طريقة حياتنا التي تذيب هويتنا والتي بدأت من غياب العادات في حياتنا وتكاد ان تنهي بغياب لغتنا ثم علينا بعد هذا السقوط المدوي ان نتباهى بأننا ابطال نارتيون
( من مجلة إلبروز" للكاتب ..بشار ابراهيم حلاو" )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق