في الآونة الأخيرة ظهرت عدة كتب و مقالات ساهمت في نشر فكرة تحولت إلى قناعة لدى البعض و مفادها أن ثمة علاقة بين الشعب الشركسي وبين السومريين الذين أسسوا في جنوب العراق أول حضارة مكتوبة في تاريخ البشرية و صاغوا فكرا لاهوتيا عميقا، نهلت منه كل الأديان والشعوب التي جاءت بعدهم في منطقة الهلال الخصيب وما زالت بعض آثاره باقية في مفاهيمنا و قيمنا حتى هذا اليوم.
و لكي تثبت هذه الدراسات وجود علاقة بين الشعبين المذكورين اتبعت جميعها أسلوب واحد يقوم بعرض ألفاظ و كلمات سومرية مترجمة سابقا إلى الانكليزية عن طريق علماء متخصصين في السومريات و من الانكليزية إلى العربية عن طريق باحثين ومترجمين عرب فيتم عرض هذه الكلمات السومرية المتفرقة وتتم محاولة تحليلها و إيجاد معنى قريب لها باللغة الشركسية ( أو يتم تقريبها بلي عنق اللفظة السومرية أو المعنى الشركسي ) ومن خلال عدد من الألفاظ لا تزيد عن عشرات يتم القول بوجود تلك العلاقة و بالنسبة للبعض يتجاوز الافتراض وجود علاقة بين الشعبين أو اللغتين بل يصل ليؤكد أن هذا الشعب هو ذاك تماما و أن هذه اللغة هي تلك تماما . في حين لم تتم هذه الدراسات وفق عمل منهجي بحثي علمي، يحدد الأسس و القواعد اللغوية والنحوية الثابتة لتبني عليها هذه الدراسات نتائجها أو على الأقل أن تقوم تلك الدراسات بمقارنة شاملة لكل عناصر الحضارة و لو لغويا فقط بدل البحث عن لفظ هنا وآخر هناك .
إن ما دفع الباحثين لدراسة العلاقة بين اللغتين السومرية و الشركسية، أن كلتا اللغتين مقطعية ، مع العلم بأنهما ليستا اللغتين المقطعيتين الوحيدتين في العالم، فهناك المجرية (الهنغارية) و الفنلندية وهنالك اللغات التركمانية وكل لغات العالم التركي من اسطنبول وحتى بشكيريا و هذه اللغات المذكورة يجمعها اسم لغات الاورال الطاي .. و هناك اللغات الصينية و هي مقطعية و اللغة اليابانية وهي مقطعية أيضا ، وبعض الدراسات تعتبرها واحدة من لغات الاورال الطاي ، وغيرها كثيرا من اللغات الآسيوية.
حسنا ، بما أن كلتا اللغتين ( الشركسية و السومرية ) مقطعية، و بالتالي ، و كما يخبرنا الدارسون و العارفون باللغة الشركسية، أن جذر الكلمة الأساسي و الذي قامت عليه تراكيب متنوعة لتعطي عدة معاني، لا يتغير مهما طال الزمن ، إذن فمن الطبيعي ، بل ومن المؤكد في هذه الحالة أن تتطابق المفردات التي تتعلق وبشكل خاص بالعناصر الأساسية في الحياة، والتي تتكون في اللغة منذ بدايتها أي قبل أن ينفصل الشعبان ، حسنا لنرى مدى انطباقها من خلال هذا الجدول، وأرجو من القارئ الكريم عند قراءته الكلمة السومرية، وقبل الإطلاع على معناها باللغة الشركسية ، أن يحاول تحليل الكلمة السومرية، و استنباط كل المعاني الشركسية الممكنة لها، ويقارنها بعد ذلك بالمعنى الصحيح لها ليحكم بنفسه على هذا المنهج :
المفردة باللغة السومرية
المفردة باللغة الشركسية
المفردة باللغة العربية
أبزاخ + بجه دوغ
قبرتاي
آ
بسِ
بسِ
ماء
أنتين
تشء ماف
صء ماخَو (خاء مخففة)
شتاء
ايمش
غَ ماف
غَم اخَو (خاء مخففة)
صيف
أنتي- دنجيره
تحَ
تحَ
رب
جانا- كي
تصء جو (جيم مصرية)
شءجو (جيم مصرية)
أرض
دو
ماكؤَ
ماكؤَ
يمشي
دومو
صاوَ- سابي تشء الَ تسءكؤ
صاوَ- سابي صء الَ تسءكؤ
ولد - طفل
مونوس
صوز
فز
امرأة
لو
لءِِ
لءِ
رجل
ناج
يَصوه
يُوف
يشرب
نمو
خِ(خاء مخففة)
خِ(خاء مخففة)
بحر
نند ا
صكن
صخن (خاء مخففة)
طعام
نون
بسِ خَو
بسِ خَو
نهر
ها
بتسَ جيي (جيم مرطبة)
بد زجي (جيم مرطبة)
سمكة
هورساج
قوصحَ
قوصحَ
جبل
آن
واصوَ
وافَ
سماء
أود
مافَ
ماخَو (خاء مخففة)
يوم
يلاحظ قارئ هذا الجدول أنه لا يوجد حتى ادني تقارب بين الكلمات السومرية و الشركسية أو تحول في حرف من الأحرف أو حتى في إيقاع الكلمة .
و بعض من خاضوا في هذا الموضوع يؤكدون بأن حضارة كورغان مايكوب و الحضارة السومرية على علاقة وطيدة، فلا بد كي يستقيم هذا الرأي أن تكون الكلمات المتعلقة بعناصر الحضارة متطابقة، أو على اقل تقدير متشابهة بين لغتي الحضارتين ، ولنقم ببعض المقارنة من خلال هذا الجدول ، و أرجوهن القارئ الكريم عند قراءته الكلمة السومرية، وقبل الإطلاع على معناها باللغة الشركسية، أن يحاول تحليل الكلمة السومرية و استنباط كل المعاني الشركسية الممكنة لها ، و يقارنها بعد ذلك بالمعنى الصحيح لها ليحكم بنفسه على هذا المنهج :
المفردة باللغة السومرية
الكلمة باللغة الشركسية
المفردة باللغة العربية
أبزاخ + بجه دوغ
قبرتاي
اوميا
يغَ دجاكؤَ
يغَ دجاكؤ
أستاذ
أدبا
يدجاءبءَ
يدجاءبءَ
مدرسة
امارجي
فيتِ نغ
خويتِ نغَ (خاءمخففة)
الحرية
انزي
أصح َ تيت
أصح َ تيت
حاكم
اوكن
زَؤتش
زَؤصء
مجلس
نجسيسا
زَفَد نغ
زَخودَنغَ (خاءمخففة)
المساواة
نجينا
زَفَّاغ
زاخواغَ (خاءمخففة)
العدل
شام
واسَ
واسَ
ثمن
كلام
خَ غَجو
(خاءمخففة وجيم مصرية)
خَ غَجو
(خاءمخففة وجيم مصرية)
بلاد / بلد
نام لولو
تسء فغ
تسء خوغَ
(خاء مخففة)
إنسانية
فماذا عن عناصر الحضارة المادية و الروحية، ماذا عما تركه شعب من الشعوب من فن و عمارة، من فكر و أدب، من فلسفة و دين، خصوصا الدين لأنه يعبر بالغ التعبير عن رؤية شعب من الشعوب للحياة وقيمتها ومعنى الفضيلة العليا فيها و أسلوب التنظيم الاجتماعي في مجتمعه، و القيم الاجتماعية و العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية التي سادت خلال نشوءه ، و عليه فلنلقي نظرة على أسماء بعض الآلهة لدى النارتيين و السومريين:
طبيعة الإله ووظيفته
اسم الإله وجنسه عند النارتيين
اسم الإله وجنسه عند السومريين
إله الحراثة والحبوب
اشنان/ أنثى
نينليل/ أنثى
تحه غلج / ذكر
إله المواشي
شموقان / ذكر
لهار / ذكر
امش ويميِش / ذكر
آخنَ (خاء مخففة)/ ذكر
إله الحجر
لايوجد
أوجيدجِ / ذكر
إله الغابات
لايوجد
مزتحَ / ذكر
إله الماء
انكي / ذكر
بسِ تحَج واشَ
(جيم مصرية) /أنثى
إله البرق
ني نهار /ذكر
اسللوحي / ذكر
صِبلَ / ذكر
إله الريح- والهواء
انليل / ذكر
ج تحَ /ذكر
الإله الحامي للصوص وقطاع الطرق
لايوجد
تغوَ تبلوق / ذكر
إله الروح
لايوجد
بسَ تحَ / ذكر
إلهة صيد السمك وتفسير الأحلام وحماية الأرامل واليتامى
نانشي / أنثى
لايوجد
إلهة الحب والجنس
انانا / أنثى
لايوجد
إلهة الحكمة والكتابة
ندابا / أنثى
لايوجد
إلهة الولادة
نينماخ / أنثى
لايوجد
نلاحظ مدى اختلاف أسماء الآلهة و جنس الآلهة ، ذكر أو أنثى، و أشير أن بعض الآلهة الشركسية المذكورة هنا مأخوذة من الأساطير وبعضها مما ورد في أدب الرحالة.
يعكس اختلاف وظائف الآلهة و اختلاف أجناسها- أنثى أو ذكر- اختلاف طبيعة المجتمعين ومفاهيمها حول الحياة وقيمتها وأسلوب معيشتهما ، و هذا مهم جدا عندما يقوم البعض بترجمة أسماء بعض الآلهة السومرية بالاعتماد على اللغة الشركسية متجاهلين تماما جنس الإله و وظيفته الأساسية كما هو موضح في المدونات السومرية ، و أحيانا يتم الافتراض بان حرفا أو كلمة قرأت أو نقلت بشكل خاطئ خلال الترجمة إلى الإنكليزية أو منها إلى العربية و يعمد للصقها لأقرب معنى شركسي ، و أحيانا يختلف حتى هذا المعنى عن صفات الإله لدى السومريين مثلا (نينهورساج) ترجمها البعض في هذه الدراسات على أنها باللغة الشركسية تعني (الأم العظمى للجبال) حيث أخذ المقطع الأول (نن) من الشركسية بمعنى (أم) ، والمقطع الثاني أخذ معناه بكل بساطة من اللغة السومرية نفسها كما ترجمت إلى العربية عبر الانكليزية، وذلك لأن كلمة (هورساج) لا تعني باللغة الشركسية (جبل) ، و (هورساج) باللغة السومرية تعني الجبل، لكنها لم تعبد في الديانة السومرية كإلهة للجبل ،أو كأم للجبل، إنما عبدت باعتبارها إلهة الأرض الصخرية و القوة الكامنة في التلال و الصحاري ووجود الحياة البرية- وهي أيضا إلهة رعاة الحمير ، و من أسماءها (دنجرماه) المعبودة العظيمة، و (نينماخ) أي السيدة العظيمة ، و (ارورو) مخرجة الأجنة، و (نينتو) سيدة الولادة و هي أم لكل مولود ، و كان الحكام السومريون يصفون أنفسهم بأنهم ربوا بلبن نينهورساج الطاهر ، و لكن أيا من تلك الأسماء لم يتعلق بالجبل ، كما ترجم البعض كلمة ( الانوناكي) بأنها(الأمهات العظيمات) رغم أن ( الانوناكي) لم يقصد بها أمهات لدى السومريين، بل كان الانوناكي آلهة العالم العلوي، و الايجيجي آلهة العالم السفلي ، بغض النظر إن كانوا ذكورا أم إناثا ،ولم يوصف الانوناكي بأنهم ( أمهات ) أو أنهم إناث في أي موضع لدى السومريين ، كما أن الآلهة أمثال ( انليل- و انكي- و آنو) ليسوا مؤنثات، و لم يوصفوا لدى السومريين باسم مجزء مثل ( ابن الام الكذا ) ، مثل ترجمة أحد الكتاب ل ( آن ) ويقول إن ( آ ) تعني( نداء) و ( ن ) تعني الام و المعنى ( يا أماه) وهو يعني إله السماء ،ومنها اشتق أسماء كل الآلهة بغض النظر ماذا تعني بالسومرية ، و نعرف جيدا أن إله السماء لدى السومريين كان ذكرا وليس أنثى ، فكيف يكون معناه ( يا أماه ) ، فهو ( آنو ) ابن الإلهة ( نمو) ، وهي أنثى.
والشيء بالشيء يذكر ،أليس غريبا أن تتم ترجمة كلمات باللغة السومرية و إعطائها معاني شركسية بأكثر من طريقة لتعطي معنيين مختلفين ،مثلا الأستاذ المرحوم برزج سمكوخ الذي كان من اشد المدافعين عن هذه الفرضية التي نحن بصددها يترجم اسم الإلهة (نانشي) على أنها (نان) ام و (تشيه) ينام بالشركسية، و يقول بما أنها كانت بارعة بتفسير الأحلام سميت (ام النوم) ويعتبر هذا دليلا على أن السومرية شركسية، وأيضا الأستاذ منذر بج يترجم نفس الاسم وبمعنى مختلف فيقول (ن ِ) يعني الأم و ( شؤه) يعني جيد أي ( الام الطيبة) ، أي يقربها كل منهم بطريقته ، فأعطت معنيين مختلفين لان كلمة الأم الطيبة لا تعني أبدا أم الأحلام ، رغم أن ابرز صفات تلك الإلهة عند السومريين أنها كانت إلهة السمك و صيد السمك و رمزها لدى السومريين السمكة ،و هذه ابرز صفاتها و لكنها كانت بارعة في تفسير الأحلام و أيضا كانت تحمي الأرامل و اليتامى، و تنتقم ممن يؤذيهم، و كانت تطارد من يغشون بالموازين و يتلاعبون بالمكاييل ،و هذا واضح تماما في ترتيلة مرفوعة لأجلها ، ألا يدل هذا على أننا قد نترجم ونقرب كما نشاء بحيث نترجم نفس الكلمة بمعاني مختلفة فهل هذا معقول وهل هذا عمل منهجي ؟! في موضع آخر يترجم احدهم اسم الإلهة (انانا ) ( فيقول انه لا يعدو اسم (الام) حرفيا بصيغة المنادى ولكن المعنى الوصفي يمكن ان يستقى من اسمها الثاني (عشتار) ( و الكلام هنا ما زال للمترجم) فيقول بالاعتماد على اللغة الشركسية إن اسم عشتار يفيد معنى ( الباكر- تار- الشمس- تغ) ويقول أن هذا يعني ( نجمة الصبح وعروس السماء) ، و اعتقد أن في هذه الترجمة مغالطة كبيرة لواقع الحال، أولا لأنها تتجاهل تجاهلا تاما أن كلمة عشتار كلمة سامية - بابلية- وليست سومرية وليست الاسم الثاني لإنانا ، إنما هي الاسم السامي البابلي و السوري لاحقا لطبيعة إلهة الخصب المشابهة- لإنانا - السومرية وبالتالي إن المترجم يترجم كلمة سامية بالاعتماد على الشركسية ، و ثانيا إن جنس إله الشمس لدى السومريين و البابليين هو مذكر وليس مؤنث ولا علاقة لعشتار بالشمس على كل حال ،و إن معنى الشمس لا يعطي معنى النجم بأية حال من الأحوال ، إن ترجمة اسم غير سومري أي سامي بالاعتماد على الشركسية هو إضعاف لفرضية التقارب بين الشركسية و السومرية، ما دمنا نستطيع بكل سهولة ترجمة أية كلمة و لأية لغة تعود، كما ترجم نفس الكاتب كلمة تموز على انه (زوج إنانا ) حيث يقول أن عشتار تكسر جناح طير الشقراق في أسطورة جلجامش فيقول إن المراد( ( مجازا ) ) هو زوجها (تموز) ويترجم الاسم - تموز- على انه بالشركسية جناح مكسور ، وفي هذا الكلام خطأ كبير ، أولا: إن كلمة تموز ليست من اللغة السومرية بل دو موزوي هو الاسم السومري لزوج إنانا ،و أما تموز فهو اسم سامي- بابلي- لزوج عشتار البابلية ، أي انه ، أي الكاتب ، ترجم كلمة بابلية و ليست سومرية بالاعتماد على اللغة الشركسية، و أيضا ليس من صفات تموز أو دو موزوي السومرييه أي مكان انه كسير الجناح أبدا ، أي حتى هذه الترجمة لا تتناسب مع النص السومري ، إنما دوموزوي السومري و كما يرد في المدونات السومرية هو الملك الراعي، و هو المخصب، و هو من يبعث الحليب في الشياه و يكثر المواليد، و هو صاحب المنتجات الرعوية ومشتقات الحليب ، ولم تكن يوما من صفاته أو ملامحه أن جناحه مكسور كي نقول أن المقصود مجازا بالطائر هو تموز، فتموز أو أي إله نظير له كانت ملامحه دوما في ميثولوجيا كل الشعوب واضحة فهو روح القمح القتيل، و هو القربان البشري مع أول رزمة قمح محصودة ، وهو الابن الذكر للإلهة الأم الكبرى و الذي يصبح عشيقها ، و هو روح الإنبات و عودة الطبيعة ، و هو الإله الابن القتيل، و لكن أيا من رموزه لا يعمل رمز طير ، و إضافة لذلك فان تموز يختلف عن دو موزوي بأن تموز يعود للحياة في الربيع ، وفي أي من قصائد انانا السومرية لم تضرب زوجها و تكسر جناحه ، إنما طلبت إنانا من عفاريت الموت أن تجره للعالم الأسفل ،ولكن الكاتب يقع في اللبس لأنه يعتمد على ملحمة جلجامش البابلية و التي يذكر فيها أن عشتار ضربت طائر الشقراق (وليس تموز ) ، أما الأصل السومري لهذه الأسطورة البابلية فهي عبارة عن ستة قطع سومرية مختلفة، لا يرد في أي منها أن إنانا ضربت أي طائر، و الملاحظ أن هناك فوارق ملموسة جدا بين الأسطورة البابلية و القطع الست السومرية التي بني عليها العمل البابلي، و الذي سمي ملحمة جلجامش ،من حيث القيم و بعض الأحداث ، حيث أننا لا نلمس في القطع السومرية صراعا بين جلجامش و إنانا ، و تهميشا و لا تحميل صفات سلبية لإنانا بل على العكس يبدو جلجامش في الأساطير السومرية محبا وخدوما لإنانا وينقذ من اجلها شجرة (الحلبو) خاصتها ، و يصنع لها منها آلتين موسيقيتين، بينما يبدو النص البابلي ذو صبغة ذكورية واضحة حيث يهين عشتار في مواضع عدة و ينعتها بصفات سلبية ، أما نص ( إنانا وثور السماء ) السومري فباستثناء الأسطر الأولى فان النص مشوه تماما و لم يتمكن احد من قراءته لنقول انه يحمل نفس تفاصيل النموذج البابلي اللاحق، وهذا ما لم ينتبه له الكاتب حين قام بترجمة ما ورد في النص البابلي معتبرا انه صورة طبق الأصل عن النصوص السومرية الستة فقام بوصف حدث لم يحدث في النص السومري و ترجم كلمات - بابلية- سامية - بالاعتماد على اللغة الشركسية.
في موضع آخر حاول احد الكتاب إثبات أن مدينة (آرتا ) السومرية كانت موجودة في القفقاس، مشيرا إلى الثقافة المعدنية التي ظهرت منذ الألف الثالثة قبل الميلاد في شمال القفقاس، و إلى مقابر مايكوب ، و يستنتج هذا الاستنتاج، من خلال قصة سومرية .تحدثت عن سبعة جبال تفصل أوروك عن آرتا. و قد تحدثت تلك القصة( التي اعتمد عليها الكاتب المذكور ) عن وجود معادن ثمينة في تلك الجبال ، حيث مدينة آرتا ، و من ذلك يصل الكاتب لاستنتاجه بان آرتا سومرية و يربط بينها وبين حضارة الكورغان القفقاسية ، دون معاينة دقيقة ودراسة عميقة تقارن بين الحضارتين ( سومر و الكورغان ) و سأحاول معالجة ذلك بما هو متاح لدينا من معلومات عنهما.
درس العالم الروسي تورتشانينوف معطيات مقبرة مايكوب العائدة لحضارة الكورغان ، فتبين له أن الرسوم التي حوتها مقبرة مايكوب هي عبارة عن كتابة تصويرية، وقام بفك رموزها اعتمادا على اللغة الابخازية ، وتبين للعالم أن حضارة راقية وجدت في شمال القفقاس ، واسماها العالم تورتشانينوف باسم آشوي، كما أسمى شعبها باسم الآشويين، كما سمو بلدهم و أنفسهم ، استنادا إلى مكتشفات أخرى وجدت في بيبلوس، و تعود للملك العبد (باتو) و جماعة من العبيد الذين قاموا بقيادة الملك العبد (باتو بثورة في آشوي ،فتم بيعهم لسفينة فينيقية كانت ترسو في ميناء (انابة) القفقاسي ، و أخذ العبيد إلى بيبلوس (في لبنان اليوم) و هناك دونوا و كتبوا بلغتهم و كتابتهم، أي باللغة الآشوية، و الكتابة الآشوية، وقد تم فك رموز تلك الكتابة بل وقراءتها أيضا ، بالاعتماد على اللغة الابخازية المعاصرة ، و دون وجود أي نص آخر بلغة أخرى مترجم لها.
إن مقبرة مايكوب كما نعلم تعود لعام 2500 قبل الميلاد، وتبين كما ذكرنا سابقا أن كتابة تصويرية كانت سائدة في ذلك الحين في شمال القفقاس، وان لغة تلك الكتابة هي اللغة الابخازية، و تبين لاحقا ،وباعتبار أن الابخازية واحدة من مجموعة لغات شمال غرب القفقاس، أن تلك اللغة التي سادت آشوي هي اللغة الأم لكل اللغات الأديغية و الأ بخازية (اديغة- وبخ- ابخاز) ، و أن عاصمة آشوي قامت في مكان قريب من مدينة مايكوب الحالية، لماذا أتحدث عن حضارة كورغان مايكوب ؟ لأنها مقدمة ضرورية جدا من اجل مناقشة مسألة آرتا ، فهي تنفي الافتراض بوجود مدينة آرتا في القفقاس .
طبعا من المتفق عليه لدى علماء السومريات، أن آرتا سومرية، و شعبها سومري،ولغتها سومرية، و حضارتها شديدة الشبه بالحضارة السومرية، هذا متفق عليه تماما لدى علماء السومريات ، لكن الاختلاف بينهم حول مكانها ، حيث يقول أبوالسومريات أنها في هضاب إيران، بينما يقول الكاتب الذي نحاول مناقشة فرضيته أنها تقع في القفقاس، من اجل دعم نظريته حول الأصل الشركسي للسومريين .
يطرح الكاتب المذكور أسطورة صراع آرتا مع أوروك كإثبات على أن سومر شركسية ، و الأسطورة بالمختصر كما وردت في المدونات السومرية، تتحدت عن صراع ينشأ بين مدينة آرتا و بين مدينة أوروك ، و في النهاية و بعد سنوات من الصراع، و بعد تدخل الآلهة، و خصوصا إنانا لمصلحة أوروك، و تهديد (انمركار) ملك أوروك، و بعد خداع طويل يقوم به ملك( آرتا ) ، و بعد ان يحصل ملك آرتا على الحبوب يرفض الخضوع، لكنه في النهاية، وفي اللوح السومري الذي يصبح غير قابل للقراءة عند هذه الفقرة، يتبين بعد ان يصبح اللوح قابلا للقراءة، أن آرتا خضعت لأوروك.
أولا : لا بد لمن اطلع على الحضارات التي قامت في العراق عبر التاريخ ، أن يلاحظ أنها وجدت المجال الحيوي و البعد الاستراتيجي لها ، في السيطرة على جزء من البلاد الواقعة شرقي العراق ،أي هضاب إيران و شمال العراق ثم سوريا حتى البحر الأبيض المتوسط، وحتى الآشوريين الذين وصلت تعداد السكان في إمبراطوريتهم رقما لم يصله من كان قبلهم،وامتدت إمبراطوريتهم حتى سيطرت على مصر ، ومع ذلك لم يستطيعوا ، ولم يفرضوا سلطانهم شمالا لأكثر من هضبة (أرمينيا ) ،و لم يفكروا يوما بالحصول على خشب أو معادن جبال القفقاس ، بل حصلوا على المعادن من إيران و الخشب من جبال لبنان، ولنتذكر وحسب رأي صموئيل نوح كرايمر أيضا ، بأن عدد السكان في المدن السومرية كان مابين عشرة آلاف وحتى خمسين ألفا ، و بالضبط في الفترة التي نشأ خلالها الصراع بين آرتا و أورك كان تعداد سكان أوروك عشرة آلاف ، و كما هو معروف فان المدن السومرية كانت تتبع نظام دويلة المدينة ، و لنفترض في أفضل الاحتمالات أن أوروك كانت تبلغ في ذلك الحين أقصى رقما ممكنا و هو خمسون ألفا، فكم نسبة من يكونون في سن القتال ، وكم يمكن للمدينة أن تفرغ منهم للحروب، كي تستطيع متابعة حياتها المدنية دون ان تجوع و تتعطل أعمالها، ليس أكثر من سبعة آلاف محارب بأحسن الأحوال ، فهل يستطيع جيش قوامه سبعة آلاف محارب أن يعتلي سبعة جبال قفقاسية وعرة، و يفرض سلطته في عام 2500قبل الميلاد على مدينة تقع في تلك الجبال ، ويتحمل العناء ويأتي منها بالمعادن و الأخشاب و الحجارة ، رغم أن الهضبة الإيرانية بجانبه وفيها معادن وحجارة، و أيضا بقربه جبال طوروس وزاغروس، هذه الجبال القفقاسية التي احتاجت المدافع القيصرية الروسية لمئة وعشرين عاما حتى تستطيع فرض سلطتها عليها وبعد دفن مليوني جندي روسي فيها ، أيستطيع جيش دويلة مدينة تبعد عشرات الأميال عنها غلبتها بهذه البساطة و بعد أن يقطع بلادا وهضابا و شعوبا كانت تمتد من منتصف العراق وحتى شمال القفقاس ، حيث أن السومريين سكنوا جنوب العراق ، وفي ذلك التاريخ أي في فترة تلك القصة أي عام 2500 قبل الميلاد ، كان الآشوريون النصف مزارعين و المتأخرين حضاريا يعيشون في شمال العراق، وكان هناك شعب شديد الهمجية سمي بالجوتيين يعيش في كهوف في شمال العراق و يعتقد انه كان شعبا هندو أوربيا ، ثم بعد ذلك تأتي المساحات الكبيرة التي تسكنها شعوب هندواوربية مرتحلة في شرق تركيا الحالية ،ثم يأتي الاورارتيون الذين سكنوا حول بحيرة فان و جبال أرارات خلال ذلك التاريخ،ثم يأتي الكاشيون الذين سكنوا منذ الألف الثالثة ق. م جنوب البحر الأسود وسط آسيا الصغرى و أعالي نهر الفرات حتى جبال زاغروس الحالية، ثم يأتي الحوريون الذين كانوا يسكنون أعالي نهري دجلة و الفرات حتى وسط جنوب القفقاس ثم الشعب الحاثي الذي سكن منذ بداية النيوليت في جبال طوروس وهضبة الأناضول و جنوب البحر الأسود و الكولخيد ، فهل تمر حملة انمركار بهذه الشعوب جميعا دون أن تصطدم بأي منها ، وتصمت تماما عنها الأسطورة التي تحدثت عن قطع سبعة جبال للوصول لآرتا دون أن تتحدث عن بعد المسافة إليها وتنوع الشعوب ما بينهما ،خلال الصراع بين آرتا المعلقة في جبال القفقاس(كما تقول) و بين جنوب العراق.
ثانيا : إن الحملة على آرتا حصلت في عام 2500 قبل الميلاد ، أي في تاريخ قريب من العمر المقدر لمقبرة مايكوب ، وكانت الكتابة في ذلك الحين في حضارة الآشوي تصويرية، أما في سومر فإن الكتابة كانت قد وصلت لمرحلة الرمزية الصوتية، حيث لكل صوت رمز ، و مادامت كما يقول آرتا واقعة في شمال القفقاس، و ما دمنا نعرف جميعا أن شعب آرتا سومري و الحضارتين متقاربتين، و ما دامت الحضارتان متقاربتان و الاحتكاك واسع بينهما ، و التجارة قائمة ، بل و تعبدان نفس الآلهة ، فان ذلك بدو ن أدنى شك كان سيجعل الكتابة الآشوية التصويرية تصبح رمزية صوتية مثل الكتابة السومرية و التي أصبحت رمزية صوتية منذ 3100 ق.م ، و هذا مخالف لنتائج الاكتشافات الأثرية، و أورد هنا ما قاله العالم الكبير تورتشانينوف عن حضارة مايكوب لم لا يوجد أية رابطة منظورة بين الكتابة الآشوية و غيرها من الكتابات ) ، و يقول أيضا ( أنها نتاج محلي قفقاسي و إن الآثار الغنية في مقبرة مايكوب و كذلك آثار منطقة (ميشوقه) العائدة لنفس الفترة تدل على أن سكان (ميشوقه) كانوا صناع و مبدعي الأشياء الثمينة العائدة لمقبرة مايكوب) .
و كما نعرف من القصص السومرية ، كانت آرتا على احتكاك كبير مع أوروك ، وكلاهما كما ذكرنا عبدتا نفس الآلهة، واستعملتا نفس اللغة، و بالتالي فمن المنطقي أن تؤثر ثقافة سومر التي أثرت بكل ثقافات شعوب المنطقة بثقافة آشوي، أو نجد على الأقل تشابها بين أسماء الآلهه بينهما .
إن ما نعرفه لاحقا عن شعب آشوي في القرن التاسع عشر قبل الميلاد ومن خلال ماكتبه الملك العبد (باتو ) و العبيد الذين بيعوا معه أنهم تحدثوا في كتاباتهم عن إله اسمه ( آمزا ) و يوصف بأنه إله الرجال أو الرجولة ، ولا يوجد بين الآلهة السومرية إلها بهذا الاسم أو الوظيفة ، كما يوصف ( آمزا ) بأنه القمر، واسم إله القمر عند السومريين هو (نانا ) و عرف بثلاثة أسماء (نانا ) البدر، و( انسون) بعد أسبوع من بدء الشهر القمري، و باسم (شيمبابار) أي الهلال ، و هناك إله آخر لدى الآشويين عرفنا اسمه، و هو إله الشمس (مارانا ) و هذا يختلف عن اسم إله الشمس عند السومريين و هو ( اوتو) ، و لا يمكن أبدا أن يكون مأخوذ ا من الوسط المحيط بأولئك العبيد ، فإله الشمس الآرامي و كذلك عند الساميين الغربيين في الرافدين هو (شمش) ، و عند الفينيقين و الكنعانيين حيث عاش أولئك العبيد ، هو ( اطخنون ) ابن (عليون) و (بيروت) ، و هو في اوغاريت كما يعتقد البعض ( بعل شمين) و البعض يعتقد أنها (شاباش) ،و بعد قيام الامبرطورية الفارسية انتشر اسم (سوريا ) ( إله الشمس لدى الهندو اوربيين الفرس و الهنود ) .
فإذ ا كان السومريون هم ذاتهم الشركس، و هم ذاتهم أبناء حضارة الكورغان، أليس من المعقول أن تتشابه أسماء الآلهة بينهما، و ليس هذا فحسب ، بل بما أن فرضية الكاتب تقول بإمكانية قراءة اللغة السومرية اليوم بالاعتماد على اللغة الشركسية ، فلماذ ا فات علماء الآثار الذي احتاروا في كتابة آشوي التي وجدت في بيبلوس، حتى توصلوا بأنها كتابة و لغة قفقاسية، لماذ ا لم يطرحوا أبدا فكرة أن تكون لغة سومرية ، خصوصا أن العهد بين الحضارتين متقارب ، و الفترة الزمنية بين الحضارة السومرية و آثار الكتابة الآشوية في بيبلوس لم يتجاوز حسب عمر آثار الآشويين في بيبلوس أكثر من خمسمائة سنة، بينما عهدنا نحن بهم ، (نحن من نحاول ترجمة لغتهم بالاعتماد على لغتنا الآن) أربعة آلاف و خمسمائة سنة على اقل تقدير.
إن فكرة أن تكون آرتا السومرية في القفقاس و أن يكون مصدر حضارتها هو سومر هي فكرة بلا شك مرحب بها من قبل أثريين أمثال (ماركوفين) ، الذي يقول بكتابه ( المقابر الكبيرة في غرب القفقاس ) ( إن هذه الحضارة ليست لها جذور بين قدماء سكان الكوبان و البحر الأسود) ،و هو ممن يرون انه من غير الممكن لسكان القفقاس القدماء أن يقدموا حضارة عريقة، و يسعدهم بلا شك أن يؤيد كلامهم أحدا ما بعلاقة مفترضة مع السومريين، كي يقولوا أن حضارة القفقاس جاءت من خارج المنطقة،و هم على كل حال لن يعتبروا السومريين شركس نظرا لضعف الإثباتات على ذلك.
ان اعتماد المنهج اللغوي وحده من اجل دراسة العلاقة مع شعوب يفصلنا عنها خمسة آلاف عام عمل غير واقعي، فبقدر ما نجد من الألفاظ المتشابهة نجد عددا اكبر من الألفاظ المتباينة ، كما أن نتائج هذا العمل لا يشكل نظرية متكاملة قوية قادرة على الصمود أمام النقد ، (و لنتذكر ما قام به الباحث كمال الصليبي حين اعتمد منهج الأسماء و خرج بنظرية تقول ان إسرائيل التاريخية المذكورة بالتوراة تقع في الحجاز و ليس في فلسطين و دعم نظريته بأسماء القرى و الأماكن الحالية في الحجاز ووجد ما يقابلها بالتوراة بإتباع نفس منهج تقريب الكلمات و القول ان هذا الحرف سقط لسبب كذا و كذا ، وقد دحضت نظريته تماما بأدلة دامغة تاريخية و اركيولوجية ) .
و أنا لا ادعي بأنني في هذا البحث البسيط استوفيت معالجة الموضوع تماما ، كما أني لا ارغب من خلاله إقناع القارئ بأن ليس ثمة علاقة بين الشركس و السومريين ، و لكن ما أردت معالجته و إيضاحه هو إظهار الضعف و الوهن بالدراسات التي تناولت هذا الموضوع حتى الآن ، ( هذا إذا كان من الممكن تسميتها دراسات أو أبحاث حقا ) ، فقسم منها يقوم على ادعاءات ضعيفة واهنة حين يفترض ويقرب معاني حسب الحاجة، وقسم آخر يقوم على لا شيء ( حين يقوم بترجمة كل ما يقف بطريقه سواء من اللغة السومرية أو اللغة البابلية ودون تمييز .
ان الدراسات اللغوية الحقة يجب أن يقوم بها باحثون مخصصون بكلا اللغتين السومرية والشركسية و باعتماد منهج لغوي مقارن ، يقارن قواعد الصرف و النحو و الإعراب ، و سبر لكامل مفردات اللغتين بحيث يمكن الوصول لنسبة حقيقية للمفردات المتطابقة لفظا و معنى، من اصل مفردات اللغة.
و يجب أن تتكامل تلك الدراسات مع دراسات تشمل كل مناحي تلك الحضارات الروحية و المادية وفهمها بعمق .
و لا ادري لماذا يتهافت الشركس على الالتصاق بالسومريين كما يحاول غيرهم و اعتقد أن أحدا في النهاية لن يستطيع أبدا الالتصاق بمن قاموا مفاتيح الحضارة للبشرية، على كل حال لا يعيب احد أن أجداده لم يصنعوا حضارة، كما لا يفيده عمليا كثيرا إن صنعوها ، ( ففي بعض الأحيان يكون الماضي الحضاري الكبيرو العريق ، نقمة وعائقا على ورثته بحيث يعيقهم من التقدم ، لأنه يقلل من قدرتهم على مجاراة العصر و هضم متغيراته) ، المهم ما يصنعه هذا الشعب أو في ذاك لنفسه اليوم ، فهذا هو الواقع الذي يفيده فعلا ، و هناك شعوب كانت بالأمس فقط من أكلة لحوم البشر، وهي اليوم تتجاوزنا حضارة ورقيا و إنسانية و رحمة، و على كل حال حتى لو أمكن إثبات تلك العلاقة المفترضة ،و بالاعتماد على هذا المنهج الهش الضعيف- فرضا-( و هو لن يحصل) ، فإن ذلك لن يفيد الشركس بشيء ، فالحضارة السومرية ستبقى عراقية ، و الحثية و الحاثية ستبقيان تركيتين، فالكيان السياسي لأية دولة في العصر الحديث يجعلها الوارثة واقعيا لكل تراث و لكل شعب قام على أرضها ،بحكم أنهم في ذابوا في الشعب الذي جاء لاحقا وأورثوه حضارتهم، و مع الأسف يضيع البعض أوقاتهم في خلق علاقات واهمة مع السومريين، رغم أن القفقاس تكاد تطفو على بحر من الآثار ، وما إن تضرب معولا في تربتها حتى تصطدم بقطعة أثرية ، تلك الآثار مهملة منسية بسبب الظروف الاقتصادية و الإدارية الصعبة التي تمر بها البلدان التي خرجت من المعسكر الاشتراكي.
ففي كل بلدان المعسكر الشرقي السابق تبدو الحكومات عاجزة عن فعل أي شيء من اجل إنقاذ آثارها ، لان حاجاتها الاقتصادية تبدو أهم بكثير اليوم من حاجتها لمعرفة و اكتشاف تاريخها ، بسبب تدهور ظروفها الاقتصادية و الحياتية .
ففي أوكرا نيا مثلا يتم القضاء على آثار حضارة ( الاسكيت) أجداد الأوكرانيين الحاليين ، لمصلحة حاجة الفلاحين للزراعة ، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة ، وفي شمال القفقاس وفي كل روسيا الأمر لا يختلف كثيرا .
فقد تم منذ خمس و ست سنوات اكتشاف عشر كورغانات قرب قرية (حاجوخ) ، في جمهورية الأديغي، و تكشف صور هذه الكورغانات عن تماثيل لكائنات كالتنانين تحمي القبور، و على بعد 300 متر من هذا الموقع الأثري ، يتم قطع الأشجار و تجريف التربة، و في تلك المنطقة بالذات وجد سابقا 300 ثلاثمائة كورغان ، لم يبقى منها سوى اثنين قابلين للعرض على السياح، حيث أعطت البلدية تراخيص للبناء فوقها ،فتم تجريف الكورغانات بالجرافات ، و قد استخدمت حجارة الكورغانات في بناء أساسات البيوت الجديدة ،و لنتذكر أن هذا المكان بالذات حيث قرية حاجوخ جزء مما يسميه الشركس (شوكوج - الأرض العتيقة ) ، و ربما مثل مكانا مقدسا بالنسبة لحضارة الكورغان .
إن هذا الإهمال للآثار في الجمهوريات الشركسية أمر مؤلم و مؤسف حقا ، بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور ، و أيضا بسبب الجهل والتخلف الذي يعيشه الشعب الشركسي أينما وجد ( الجهل من ناحية الحفاظ على تراثه و ثقافته ) ، فهذه المسائل ثقافية تهتم بها الشعوب حين تبلغ منزلة عالية من الحضارة و التطور و الثقافة ، هي حاجة عليا للبشرية ، ولهذا فهي تستدعي وجود مثقفين، كي يقوموا بعملية التنوير ، و مع الأسف إن من عليهم أن يقوموا بجهود حقيقية من أجل التنوير ، ومن اجل إنقاذ تراث شمال القفقاس مشغولين بسومر ، و سومر بغنى عن كل الباحثين ، فما إن تكتشف قطعة أثرية سومرية حتى تنهض كل مراكز الأبحاث العالمية للحديث ونشر الصور عنها ، إضافة لكل الجرائد الناطقة بالعربية و الانكليزية و الألمانية بل و كل اللغات ، في حين تجرف بالجرافات كورغانات بارتفاع عشرة أمتار ولا يشعر بذلك شركسي واحد فقط ، و لا تسمع عن ذلك أي مجلة متخصصة بالآثار، لأنها (ربما ) لم تسمع أصلا بوجود الكورغانات و لا بحضارة القفقاس ، ومسؤولية ذلك لا تقع على عاتق تلك المراكز و المجلات، إنما تقع على عاتق الشركس بالدرجة الأولى ، لأنها آثار أجدادهم وتمثل ماضيهم هم ، فليس من المعقول أن نتوقع أن يهتم الآخرون بخصوصياتنا التي نهملها نحن .
و أتساءل هنا : هل يحق لكاتب شركسي أن ينشغل بقضية سومر في الوقت التي تزول به سنويا عشرات المواقع الأثرية الشركسية في شمال القفقاس ، و التي يتزامن تاريخ بناءها مع تاريخ بناء الأهرامات المصرية .
إن الحقائق التي تتكشف عنها آثار شمال القفقاس هي الحقائق الأكثر أهمية و حسما في تاريخنا ، و إن الآثار التي تكتشف ضمن الكيانات السياسية للجمهوريات الشركسية في شمال القفقاس هي فقط مكسبنا الواقعي ، فعسى أن يهتم الشركس حقا بهذا الموضوع الذي يحتاج لدعم مادي ومعنوي، وعملية تنوير واسعة للمواطنين الشركس ، وهذا يحتاج بدوره لتواصل حقيقي و واقعي ، وتأسيس جمعية عالمية برعاية اليونسكو لإنقاذ آثار شمال القفقاس ، و إن من يقوم بجهود من اجل إثبات علاقة السومريين بالشركس عليه أن يبدأ اليوم بتأسيس هذه الجمعية العالمية، و الدعوة لها من خلال الاتصال بمراكز البحث العالمية ، لتعريف العالم بأهمية هذا الموروث و إنقاذه و الذي يمثل تراثا إنسانيا غنيا و أصيلا ، و هو ككل تراث إنساني كنز للبشرية جمعاء.
إن لدى الشركس فرصة مهمة في الوقت الحالي حيث ستقام دورة اولمبياد شتاء عام/ 2014 / في مدينة سوتشي ، فلابد من استغلالها جيدا ،و التفاعل معها بايجابية ، لإظهار تراث المنطقة التي ستقام عليها الاولمبياد عبر المسرحيات و الأغاني و الإعلانات و المحاضرات أو عبر أية أفكار أخرى ، لبث رسالة إلى اكبر عدد من السياح القادمين من أوربا و العالم ، وتبين تلك الرسالة حقيقة تاريخ منطقة شمال القفقاس و حقيقة شعبها الأصلي ، ومناشدة كل العالم للمساعدة في إنقاذ آثار شمال القفقاس. بدل اتخاذ موقف المحتجين الغاضبين المتحسرين ، الذين لا ينتبه لوجودهم احد ، وهم يرون جموع السياح القادمة من أنحاء أوربا و العالم تعود إلى أوطانها وفي ذهنها فكرة واحدة وهي أن سوتشي هي من بلاد روسيا ، فنكون بعد أن فقدنا الأرض ساعدنا بصمتنا على فقدانها روحها وماضيها .
مجلة ألبروز (بقلم نرين طلعت حاج محمود)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق