الثلاثاء، 8 أغسطس 2017

نماذج من العمارة القفقاسية

تلعب الظروف الطبيعية وتوفر مواد البناء وطبيعة المكان دورا أساسيا في تحديد خصائص الأبنية السكنية والمنشآت العامة وانطلاقا من ذلك يمكن تقسيم البينة في القفقاس إلى أبنية جبلية وأخرى سهلية مع فروقات هامة وأساسية بينها  وهنا تجدر الإشارة على أن الأبنية الأقدم الموجودة الآن في مناطق القفقاس هي تلك الموجودة في الجبال في حين أن الأحدث الموجودة في السهول ويرجع ذلك إلى عوامل عدة من أهمها أن الكثير من التجمعات السكانية التي كانت موجودة في الجبال هجرها سكانها إلى السهول بعد أن تركوا مساكنهم فيها على حالها مما أدى إلى محافظتها على وجودها سواء سليمة أو مخربة بصورة جزئية وهؤلاء الذين انتقلوا الى السهل عمدوا إلى بناء أبنية جديدة لهم تختلف حيث مواصفاتها العامة عن تلك التي كانت لديهم على الجبال ..
وهنا لابد من القول إن الأبنية الموجودة في القفقاس وبقايا ها تعود إلى فترات زمنية مختلفة فمثلا التحصينات العسكرية (قلاع, حصون,أبراج, أسوار) تؤرخ بين القرنين السادس والسادس عشر للميلاد في حين إن الأبنية السكنية لاتعود لأقدم من القرن السادس عشر للميلاد..وأما مانورد هاو نمتلكه من معلومات عن أبنية سكنية آو منشآت عامة تعود على الفترات القديمة فأن مصدرنا عنها ينحصر في نتاج أعمال التنقيب الأثري إضافة إلى مايرد في بعض الأساطير القفقاسية أو الذي يمكن إن تعرض له في حينه.

ولكن لنعود إلى البداية : فمن المعلوم إن الإنسان اتخذ في البداية المغائر والكهوف مساكن له وسكان القفقاس القدماء لم يكونوا بعيدين عن هذا وقد استمروا الى ذلك فترات قريبة وحتى الآن تستخدم بعض الكهوف لحفظ بعض المواد فيها وفي أساطير النارتيين إشارة إلى سكان المغائر والكهوف كانوا من العمالقة أو الجبابرة في حين أن سكان الحصون والأبراج هم من أبطال النارتيين..

إن أقدم الأنماط السكنية التي عثر عليها علماء الآثار على بقاياها في القفقاس هي التي يمكن ان نسميها " البيت,الحفرة" وهذا النمط هو عبارة عن بيت نصفه تقريبا تحت الأرض والنصف الآخر فوق الأرض ويرجع بعض المؤرخين ظهور هذا النمط الى السكيف الذين دخلوا مناطق القفقاس بحدود القرن الخامس ق.م ولكن النمطين الذين سادا في القفقاس في هذه الفترة أي في نهاية القرون الأولى قبل الميلاد وحتى القرون الأولى الميلادية :في الجبال غرفة واحدة كبيرة من الحجارة وفي السهول مساكن دائرية بمساحة محدودة مع عدد من الغرف يتجاوز في بعض الأحيان الغرفتين.. وعن هذين النمطين تطور بناء البيوت في القفقاس مع الإشارة إلى استمرار وجود غرفة كبيرة ترجع بأصولها إلى الفترة التي كان فيها البيت القفقاسي مؤلفا من غرفة واحدة وهذه الغرفة تتميز بمساحتها الكبيرة وبوجود موقد فيها والذي كان يقسمها نظريا إلى قسمين واحد للرجال وواحد للنساء حيث كانت النساء هنا يحضرن الطعام ويخطن الملابس لأفراد العائلة وما زال ذلك وكل المناسبات العائلية كانت تجري في هذه الغرفة الكبيرة ..ولنعط مثلا عن مثل هذا المنزل – الغرفة: ففي بلاد الداغستان مثلا وجدت أعداد كبيرة من هذه المنازل حتى حدود القرن التاسع عشر للميلاد , مساحة الغرفة تتراوح بين 50- 60 م2 وتصل بعض الأحيان إلى 100م2 وارتفاعها إلى أربعة أمتار جدارها الخلفي من الخشب والمسافة بين هذا الجدار الخشبي والمنحدر الجبلي من خلفه مغطاة بامتداد سقف المنزل وهذه المسافة الناجمة عن ذلك كانت تستخدم كمستودع . وفي وسط الغرفة وعلى الأرض يوجد الموقد والذي تتدلى نحوه سلسلة من السقف من اجل أن يعلق عليها الأواني التي تحتوي على الأطعمة المعدة للطبخ ولا توجد على أي من هذه المنازل كتابة تدل على تاريخ بنائها ولكن بعض المختصين في العمارة يرجعونها الى مابين القرنين 12-16م وبعضها الأخر إلى مابين 17-18م.

ان ازدياد عدد أفراد الأسرة جعل من الضروري بناء غرف سكنية إضافية و خصوصا من اجل المتزوجين حديثا ولذلك كانت تبنى غرفة إلى جانب الغرفة الرئيسية التي كانت موجودة في المنزل السابق وهنا لابد من الإشارة إلى ناحية هامة وان البيئة تحكمت في توسع البيوت ففي المناطق الجبلية العالية حيث الأراضي السهلية محدودة فقد تحتم الاقتصاد في الأرض من اجل توفير اكبر مساحة ممكنة للزراعة لذلك فقد تم اللجوء للتوسع العمودي وعلى العكس من ذلك ففي المناطق السهلية كان التوسع أفقيا..وعلى ذلك فقد بدأت بالظهور في المناطق الجبلية البيوت المؤلفة من طابقين حيث كان الطابق الأول يستخدم كزريبة ومستودع في حين ان الطابق الثاني  كان مخصص لمعيشة وفي السهول ظهرت البيوت المتعددة الغرف والتي تصل أحيانا إلى خمسة غرف لكل منها باب خاص يقضي إلى الفناء وعلى ذلك فإن الشكل العام لهذا البيت كان مستطيلا ولم تظهر البيوت المربعة الشكل في منطقة  القفقاس إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وقد عرف هذا البيت بالبيت الروسي ورغم أن هذا البيت انتشر في القفقاس إلا أن الغرفة الرئيسية الكبيرة التي كانت تشكل مركز الحركة للبيت كله كانت محافظة على تواجدها ..إن أقدم الأنماط السكنية التي عثر علماء الآثار على بقاياها في القفقاس تلك التي يمكن إن نسميها " البيت , الحفرة," ويرجع بعض المؤرخين ظهور هذا النمط إلى السكيف الذين دخلوا مناطق القفقاس بحدود القرن الخامس ق.م

وفي بعض المنازل كانت تبنى غرفة مستقلة بعيدة عن باقي الغرف وقريبة من الشارع وهذه الغرفة كانت مخصصة للضيوف الذين كان بإمكانهم الدخول والخروج منها دون استئذان من احد وعادة ما كان يوضع في هذه الغرفة سرير ومقعد طويل (مصطبة) وحوض(ربما للاستحمام ) وجرة للمياه وكان يضاف إليها بيوت المسلمين القفقاسيين جلد الماعز أو غزال من اجل الصلاة.

أما عن المواد التي كانت تبنى منها البيوت فهي أيضا متنوعة حسب ما توفره البيئة ففي المناطق الجبلية كانت الحجارة تشكل المادة الأساسية للبناء مع الأخشاب في حين انه في المناطق السهلية فإن الأخشاب والطين كانا يشكلان هذه المادة ويمكن القول بصورة عامة إن هذه البيوت سواء الجبلية أو السهلية كانت لها نوافذ صغيرة وأبواب منخفضة مؤلفة من فردة واحدة ومصنوعة من الأخشاب السميكة أما السقف فكان على شكل جملون مغطى بالقصب والتبن وكان البيت يطلى من الداخل والخارج بالطين ومن ثم يكنس أما الأرض فكانت تبقى على حالها , من أشكال الأبنية السكنية في منطقة القفقاس وخاصة في الجبال الأبراج السكنية ويعتقد الباحثين أن هذا الشكل من السكن قد تكور عن المنزل ذي الطابقين فالأبراج السكنية في القفقاس الشمالي هي عبارة عن أبنية مغلقة ضخمة وجدرانها لاتقل سماكتها عن المتر ولكن توجد بعض الحالات التي كانت فيها الجدران سميكة إلى الحد الذي يسمح بوجود ما نسميه كتيبة تستخدم لحفظ المواد المختلفة وخاصة الغذائية منها أو مواد التدفئة.
أما عن مادة بناء هذه الجدران فكانت الكلس او الحجر الجيري إضافة إلى الحجارة مخطط هذه الأبراج كان مربعا تقريبا وارتفاعها حوالي 10م وتصل في بعض الأحيان إلى 12م أما أبعادها من القاعدة تتراوح ما بين 5x 6 إلى 10 x  13م وقد خصصت أماكن للرمي والمراقبة من جدران هذه الأبراج على شكل فتحات مربعات وإما النوافذ فكانت قليلة العدد صغيرة الحجم وعلى ذلك فإن البناء بمجمله كان معتما ورطبا ..أما الدخول إلى البرج فكان يتم عن طريق الطابق الثاني أي طابق السكن الذي كان له باب خاص تبنى إلى جانبه شرفة صغيرة وفي بعض الأحيان كانت تبرز من هذا الباب لوحة خشبية سميكة يستند إليها سلم خشبي كان بالإمكان إزاحته ليلا أو في حالات التعرض للخطر أما الاتصال بين الطوابق المختلفة فكان يتم بواسطة فتحات في الأسقف يوضع عليها سلم خشبي..وكانت مساحة كل طابق في الأبراج السكنية حوالي 40م2 أما الأبراج الحربية فتتميز عن الأبراج السكنية بهيئتها وطريقة بنائها حيث كانت أعلى بمرتين تقريبا من السكنية ولم تكن صالحة للسكن الدائم وبالمقابل كانت أكثر جاهزية لاستخدامها في الأعمال العسكرية وخاصة الدفاعية منها وذلك بسبب ارتفاعها الذي يعطي للمدافعين عنها الأفضلية على المهاجمين من حيث المراقبة والرمي ..ان الشكل العام لهذه الأبراج العسكرية في معظم مناطق القفقاس كان واحدا تقريبا فهي في معظمها مربعة الشكل ولكن كانت هناك بعض الأبراج الدائرية وخصوصا في مناطق الداغستان والمناطق الجنوبية الشرقية المتاخمة لمناطق ماوراء القفقاس ان الهدف من بناء الأبراج الدائرية كان التقليل من تأثير آلات تدمير الجدران والتي كانت تؤثر على الأبراج ذات الزوايا  أكثر من تأثير ها على الدائرية ويبدو أن مثل هذه الأدوات لم تكن مستخدمة في المناطق القفقاسية .. ان مقاييس الأبراج الحربية القفقاسية كانت متقاربة في كل مكان وجدت فيه فارتفاعها بين 20-25م وتراوح عرض الجدار بين 5- 5,5م أما عدد طوابقها فكان خمسة طوابق مع استثناءات قليلة حيث بلغ عدد الطوابق 6 او 7 طوابق.. إن بناء مثل هذه الأبراج كان مكلفا الى حد كبير فصاحب البرج عليه أن يحضر إلى المكان كل المواد اللازمة للبناء وعليه إطعام المعلمين بسخاء طوال فترة العمل وان يدفع لهم لقاء العمل نحوا من خمسين بقرة مع تقديم هدايا ثمينة للمعلم الرئيسي أثناء العمل فمثلا عند وضع السقف الأخير يجب ان يقدم له كهدية حصانا اوثورا ..إن الهدف من بناء الأبراج الدائرية كان التقليل من تأثير آلات تدمير الجدران والتي كانت تؤثر على الأبراج ذات الزوايا أكثر من تأثيرها على تلك الدائرية..ويجب أن نشير إلى أن بعض الباحثين يفترض ان بناء الأبراج دخل إلى القفقاس من جورجيا والبعض الآخر افترض أن بعض القبائل الشيشانية التي تعود أصولها إلى مناطق آسيا الصغرى هي التي أدخلت معها بناء الأبراج إلى مناطق القفقاس.. في حين يؤكد بعضهم الآخر أن الألان الذين عاشوا في بلاد القفقاس منذ ماقبل الميلاد هم أول من بدأ ببناء الأبراج في مناطق القفقاس

ونختم حديثنا عن القفقاس بشعر شيشاني يقول:

أما الحجارة احضروها ومن تحت أعماق الجليد

12 ثورا جرت قطع الحجارة كاسرة حوافرها من الثقل

كل حجر ثمنه يعادل ثورا

وزنه كان يوازي وزن ثمانية ثيران

وهنالك مقول أوسيتيةتقول: "من برج واحد يمكن بناء قرية كاملة ولكن من كل قرية لايبنى برج واحد".

من مجلة البروز(د. جباغ قابلو)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق