ان عصر المماليك على وجه العموم بحرية وبرجية ذو مكانة بارزة في تاريخ الإسلام ,فقد وقف المماليك سدا منيعا أمام امواج المغول والتتار المتتابعة الكثيرة الزاحفة والحملات الصليبية المترادفة فتوارثوا نضال من سبقهم ضد المعتدين واستطاعوا بشجاعتهم وفروسيتهم وإيمانهم دحر تلك الحملات ورد تلك الأمواج وحماية البلاد العربية حينا من الدهر من شرور الوحشية وغارات الهمجية.. لقد أدى استيلاء المغول على العراق وسقوط الخلافة العباسة في بغداد 1258م والمظالم التي وقعت تجاه أنظار المسلمين نحو مصر الأيوبية ثم المملوكية وهاجر عدد كبير من العلماء والمفكرين والصناع أما جحافل التتار وهجمات الصليبين إلى وادي الكنانة كذلك أفضى تدهور أحوال الأندلس وصروف المغرب العسيرة من ناحية مقابلة إلى انتجاع مصر التي غدت مقرا جديدا للخلافة العباسية وقد أحياها الملك الشركسي الظاهر بيبرس ولو شكلا بعد انتصاراته الباهرة في معركة عين جالوت على المغول والحملات الصليبية ,كما غدت مركز قوة علمية واقتصادية وعسكرية نجمت في التألق وفي حفظ التراث العربي الإسلامي وإمداده بمعين فياض
وقد اجتذب صيت مصر والقاهرة في العلوم والتقدم والازدهار المؤرخ العربي ابن خلدون وقد دخل ابن خلدون القاهرة عام 784هـ زمن الملك برقوق احد ملوك الشراكسة ولما خلف الملك الناصر فرج بن برقوق أباه استصحاب ابن خلدون مع فريق من العلماء حين خرج لمحاربة تيمورلنك ,ولئن بدأ بعض الفساد والعنف يدبان في زمن دولة الشراكسة فقد وقفوا بحزم أمام تيمور لنك عام 1399م /801هـ وما ارتكبه الطاغية من فظائع وبقوا أقوياء اولي باس وقاموا بحملات على آسيا الصغرى وغزوا قبرص عام 827هـ/ 1426م بأسطول بحري صنعت سفنه في ميناء بولاق, وكانت هذه الجزيرة وكراً للقراصنة الأوربيين الذين يهددون الملاحة المصرية ,اسروا ملكها واحضروه ظافرين إلى قلعة القاهرة ومعه تاج قبرص وأعلامها المخذولة وزينت المدينة سبعة ايام ودخل عسكر الفرنج وهم زناجير وملكهم راكب وعليه آلة الحرب..وفي هذه السنة كملت عمارة السلطان( الملك الشرف بارسباي) وهي المدرسة الشرفية التي عند سوق الوراقين وبقيت قبرص تدفع الجزية حتى نهاية دولة الشراكسة . ومن أهم ملوك الشراكسة الشرف قايتباي الذي حكم ( 1468- 1496م) وقعت في زمنه عدة حروب بينه وبين العثمانيين وكان جنوده تنتصر عليهم وتسوق أسراهم وقد وصلت جنوده عام 895هـ زحفها إلى بلاد العثمانيين بآسيا الصغرى واستولت على قيساريه, كما بطش عدة مرات بجنود الفرنج المغيرين على الشواطئ العربية وكان يتفقد المدن الكبيرة كالإسكندرية ودمياط والفيوم وطاف بلاد بلاد الشام وحلب وزار مكة المكرمة وبيت المقدس وأعماله كانت أكثر في العمارة سواء في مصر أو الشام أو بلاد العرب . منها تجديد عمارة المسجد النبوي الشريف لما احترق وأنشأ قبة عظيمة على القبر الشريف, وأنشأ مدرسة مطلة على الحرم النبوي وبنى مدرسة بمكة المكرمة عند باب السلام وعدة ربوع وأماكن بمكة المكرمة أيضا ,وأنشأ مدرسة ببيت المقدس وبيوتا ودكاكين ومدرسة بدمشق ومدرسة بثغر دمياط ومدرسة بثغر الإسكندرية وبرجا عظيما مكان منارتها القديمة وعددا من المساجد واشهرها اثنان في القاهرة كما بنى وكالات تعتبر من أجمل نماذج الزخرفة العربية في البناء الإسلامي وعمل كثيرا في إصلاح آثار أسلافه المتهدمة.
لقد كانت تجارة مصر مزدهرة ورائجة بين الشرق والغرب وبين الهند وأوربة وهال الفرنج ولا سيما البرتغاليين وما كانت تجنيه مصر من الضرائب والمكوس والأجور لمرورها بأراضي مصر واستطاعوا ا البرتغاليين ان يكشفوا طريق رأس الرجاء الصالح وجنوب أفريقيا عام 1498م وتحول بعض المتاجر اليها فنقصت واردات مصر تبعا لذلك ثم اخذ البرتغاليون يعبثون بالسفن المصرية والشواطئ المصرية كما كانوا يكيدون ببعض أمراء العرب وأمراء الهند ممن تربطهم بمصر روابط اقتصادية وخشي السلطان الغوري استفحال هذا الخطر الخارجي فصنع عبارات بحرية ساقها في البحر الأحمر بقيادة الأمير حسين الكردي لتأديب البرتغاليين وسحقهم في بحر العرب وشواطئ الهند .
ولكن خطرين آخرين لاحا يهددان دولة المماليك الشراكسة أولها بروز الدولة الصفوية في فارس بزعيمها الشاه إسماعيل والثانية الدولة العثمانية التي بدأت تستعد لمحاربة المماليك الشراكسة بعد انتصارها الباهر على الدولة الصفوية , وللما بات الغزو العثماني وشيكا قام السلطان قانصوه الغوري بأعمال جليلة من شق الطرق وحفر الترع وتحصين السواحل كما وسع قلعة القاهرة وحسن الطريق إلى مكة المكرمة , ولما تقدم جيش العثمانيين ودخل سوريا جهز الغوري حملة قوية زوده بأنواع الأسلحة وتلاقى الجيشان في مرج دابق شمال حلب في رجب 1516م كان النصر أول الأمر حليف الشراكسة ولكن ما عتم أن انسحب ميسرة الجيش التي تزعمها خاير بك نائب حلب خيانة منه وثبت السلطان الغوري وهو في السادسة والسبعين من عمره فوقع الى الأرض ووطئته سنابك الخيل .
لقد حاول السلطان طومان باي آخر ملوك الشراكسة أن يحول دون دخول الغزاة الى القاهرة ولكنه دحر وسلمه عربان البحيرة إلى السلطان سليم العثماني فشنق على باب زويله في المحرم 923هـ/ 1517م وانتهت دولة الشراكسة .
Click to view full size image
كان المماليك من سلاطين وأمراء وجنود على اختلاف مراتبهم وتفاوت أصولهم وتباين أعرافهم مسلمين , وكانوا يتلقون تربية عسكرية صارمة وتربية علمية إسلامية دقيقة , وقد اشتهر بعض ملوكهم وأمرائهم وجنودهم بالتقوى والورع وحب العلم ومجالسة العلماء واحترامهم.
كانوا غرباء عن البلاد ولكنهم كانوا يشعرون بالمسؤولية الضخمة تجاه الوطن الذي أنشأهم وعلمهم وإزاء الدين الذي أدبهم واعتنقته قلوبهم , فكانوا يدافعون عن الدين والبلاد بحمية كبيرة وحماسة لانظير لها ويبذلون في سبيل ذلك أرواحهم وما وصل إلى أيدهم من مال بطريق التنظيمات الإدارية والاقتصادية ,وقد خلفت عهود المماليك من مساجد وزوايا وخوانق ومدارس وأمثالها من منشآت دينية بنوها وتعهدوها ما يفوق سائر العهود اشتد النشاط بمختلف وجهه العلمي والاقتصادي والصناعي وتجاوز احترامهم للعلماء إلى تقريبهم في شؤون كثيرة واستشارتهم وقد نشا في تلك العهود من العلماء ما تجاوز من دياجير الجهل وتضيء سواد الفتن وألفوا من الكتب واختصروا من المطولات وجمعوا من البحوث ما هو ثروة غنية , وظهر من الملوك والأمراء علماء مشهورون ومؤلفون ثقات ومنابرهم المؤرخ أبو المحاسن يوسف ثغر بردي (1410ـ 1469م) ومن أشهر كتبه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة وأيضا أبو البركات محمد بن احمد إياس الحنفي ( 1448- 1525م) ومن أشهر كتبه بدائع الزهور في وقائع الدهور وقبله شهاب الدين ابو العباس أحمد بن رجب طنبعا الجركسي المشهور بابن المجي . كما ظهر علماء مشهورون في زمن الدولة المملوكية كالمؤرخ ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون وكمال الدين محمد بن موسى الدميري ومن كتبه المشهورة (حياة الحيوان) وعلي بن عبدالله الغزاوي البهائي الدمشقي وأبو الشحنه أبو الوليد من علماء حلب ومن اشهر كتبه( روض المناظر في علوم الأوائل والأواخر) ومجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي وهو صاحب كتاب ( القاموس المحيط) واحند بن عيسى الغزاري القلقشندي وهو مؤلف كتاب( صبح الأعشى في صناعة الإنشا) واللغوي محمد بمن أبي بكر المخزومي المعروف بابن الدماميني, وشمس الدين ابو الخير الشهير بابن الجزري وهو صاحب كتاب ( النشر في القراءات العشر) ..فلقد كان هنالك تسابق نحو العلم اذ هو تعبد لله وتقرب من جلاله ونجاة في الدراين ..ان عصر دولة المماليك هو العصر الذهبي في تاريخ العمارة الإسلامية في مصر ازدهرت في عصر المماليك صناعة الشبكيات من الخشب المخروط وكذلك صناعة الجص والرخام في العمائر وكذلك تطور فن الفسيفساء وكذلك ازدهر الحفر على الخشب في مصر وبلاد الشام وبلغت صناعة التحف الزجاجية أوجها في بلاد الشام ومصر .
كانت الحضارة الإسلامية في ذلك العصر كالخصم المحيط قد صبت فيه بعد طول جريان انهار وروافد كثيرة جلبت مع مياهها الخصيبة حمولا طيبة وغثاء طافيا يستنير بسنا النجوم .
ومع ذلك فتبقى المعرفة الرشيدة السديدة فحوى الحياة الإنسانية وجوهرها النافع ونورها الساطع , وتبقى الحكمة الإلهية سيدة التوجيه في المجتمعات هادية سواء السبيل" فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وكذلك الله يضرب الأمثال"(الرعد17).
من مجلة إلبروز(مظفر عزمت)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق