الأربعاء، 20 أغسطس 2014

أساطير النارت



‏(إذا تغير شيء فإنه يعود  إلى حاله بلمسة من أوشج)

إن الأساطير لها  أكثر الأحيان دلالات تاريخية، ومعان حضارية، علما أن هناك بعض الأساطير التافهة أو السخيفة التي لا قيمة لها.

‏وتعبر الأسطورة عن رغبة شخصية أو شعبية، أو تكون منطلقة من واقعة تاريخية أو دعوة دينية، أو تطلعات قومية وإنسانية، أو آمال خائبة، أو آلام مكبوتة ، وقد تكون الأسطورة تعبيرا عن يأس ما، أو أمنية لم تتحقق أو لا يمكن تحقيقها ، فتحققها الأسطورة بخيالها . ..وهكذا. وكل ذلك يظهر حقيقة واحدة وهي أنه يجب دراسة وتحليل كل أسطورة على حدة، بل كل فقرة من كل أسطورة لوحدها، ثم مقارنة الفقرات والأساطير وربطها وضبطها واستخلاص الاستنتاجات والعبر منها.




‏وان علم الأساطير قد أصبح الآن علما قائما بذاته، وفنا له أساليبه واختصاصا يتفرغ له بعض الباحثين، ولا بد من معرفة أساليب البحث فيها ومعالجتها ، فلا يمكن لمن هب ودب أن يدعي بها أو يتنطح لتفسيرها وتعليلها وحرفها عن اتجاهاتها وأهدافها ، واستغلالها لبعض المأرب النفعية، أو للادعاء بالعلم والمعرفة وما شابه ذلك.

‏والأساطير القفقاسية كثيرة ومتنوعة وتعود إلى فترات تاريخية مختلفة جدا تمتد من القديم جدا وحتى العصور الوسطى تقريبا.

‏ويستخدم عادة اسم أساطير النارت كاسم عام للأساطير القفقاسية رغم عدم صحة ذلك الاسم، إذ ا وضعنا النقاط على الحروف وتوخينا الدقة التامة في الأمر ، لأن القفقاسيين يملكون نوعين من الأساطير :

‏أساطير نارتية، وأساطير غير نارتية، وإطلاق اسم ( النارت ) عليهما كليهما ، نوع من الخطأ الشائع المشهور المسموح به عادة ، لأن النارتيين أو أساطيرهم بمعنى أدق، يشكلون واسطة العقد والحلقة المركزية أو العمود الفقري لكل الأساطير القفقاسية، فهي أكثر وأطول وأغنى من غيرها ، بالإضافة إلى أن القفقاسيين قد حافظوا عليها بعناية ورووها بإسهاب وأضافوا إليها أحيانا ما ليس منها.

‏أما الأساطير غير النارتية فهي أساطير ما قبل النارت، أي أقدم من النارتيين، ولا توجد أساطير ما بعد النارت، وإنما توجد قصص وحكايات شعبية وأخبار تاريخية وبطولية حقيقية أو حالية أو مقتبسة من الشعوب الأخرى، وأخبار ما بعد النارت لا تدخل في باب الأساطير، وإنما هي من نوع الأخبار والروايات التي قد تكون صادقة أو كاذبة ولكنها ليست أساطير، فالأسطورة نوع خاص له صفاته ومميزاته. والنارت وعهد النارت يطلق على العصور القديمة عند الشركس والقفقاسيين، وأساطير ما قبل النارت أقدم من ذلك، أي من العصور القديمة جدا أو السحيقة في القدم.

‏وأما أخبار ما بعد النارت فهي أخبار العصور الوسطى تقريبا ، ويجب الانتباه تماما إلى أن القفقاسيين يميزون بوضوح تام لا لبس فيه ولا غموض، ما بين النارتيين وغير النارتيين، وتلك ميزة كبرى لا نجد لها مثيلا عند شعب آخر، مما يشكل مساعدة كبرى للباحثين، وخاصة أنه يكفي أن نعرف عن بطل من الأبطال أنه نارتي أو غير نارتي، حتى نعرف صفاته العامة الرئيسية والإجمالية سلفا على وجه التقريب قبل الإطلاع على أسطورته بالقراءة أو السماع، لأن النارتيين وأساطيرهم لها سمات مشتركة على وجه العموم رغم وجود الفروق الفردية، ولن نطيل الحديث أكثر لأنه سيطول إذا أردنا التفصيل أكثر، فهذا ليس وقته، وإنما نكتفي الآن بذكر ما سبق، ونضيف بأن ذلك نعمة من الله، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

‏وربما من المفيد أن نشير بإيجاز إلى الأساطير غير النارتية أو أساطير ما قبل النارت، فهي قليلة نسبيا يمكن تعدادها، وربما ضاع أكثرها بسبب تقادم العهد وشهرة النارت أكثر، ومن أشهر هذه الأساطير : أو شج، مارج، قويتسوك، الفتاة الذهبية، الفتاة والحصان، أخت أزمتوق، صحانقويس (أبو نصف رأس)...وغيرها.

‏ويمكن بشكل عام أن نعد بأن أساطير ما قبل النارت هي عن العصور الحجرية والنارت عن عصرالمعادن، مع ضرورة الانتباه في التفاصيل لأن بعض الأساطير الحجرية القديمة انتقلت إلى عصر المعادن بعد أن جرى تعديل عليها ، وذلك بسبب إضافي من أسباب اشتهار النارت أكثر وطغيانهم على غيرهم، بالإضافة إلى أن اسم نارت أصبح عند القفقاسيين يعني بطل بعد ذيوع أخبار النارتيين، فأصبح كل بطل أسطوري قديم معدودا بين النارتيين عند غير المدقيين من عامة الشعب.

‏ولن نقول كلمة عن كل أسطورة من الأساطير غير النارتية، ولكننا سنتحدث قليلا عن أوشج ومارج.

‏أوشج:

‏بطل قديم جدا ، وهو بطل حضاري وحربي في وقت واحد ، ويعتبره الشركس نبيا أو وليا أو أستاذا  لكل الأولياء الذين أتوا بعده، مثل نبي النارتيين آلج ‏الذي كان تلميذا لأوشج، إما بالتعلم مباشرة على يديه، واما بالاطلاع على أخباره والاهتداء بسيرته بعد زمن طويل من مماته، فالشركس يعلقون أهمية أكبر واحترام أكثر لذكرى أوشج القديم أكثر من ألج نبي أو ولي النارتيين، رغم قلة الأخبار المتداولة عن أوشج بسبب ضياعها مع الزمن ومن اسمه اششت كلمة (آوص) بمعنى قديس أو ولي، ويخطئ بعض الشركس وبعض الباحثين من غيرهم، بينه وبين آوص جرجي  ‏رغم أنهما مختلفان تمام الاختلاف ومتباعدان زمنيا ودينيا فأوشج من عصور قديمة جدا ، بينما آوص جرجي  هو القديس جرجس أو ماوجريس عند المسيحيين والخضر عليه السلام عند المسلمين، وربما الخطأ من تقارب الاسمين ومحاولة بعض الباحثين وخاصة من المسيحيين الغربيين، التوحيد بينهما للدس وللادعاء بفضل مسيحي على القفقاسيين أكثر مما يجب، واستغلال ذلك فيما بعد. هذا ويزعم آخرون أن بعض الأخبار المتعلقة بمارجريس آتية من القفقاس، وتبنتها المسيحية، أو أن المسيحيين تبنوا أوشج القفقاسي كبطل مسيحي، وخاصة أن القديس جرجس ( أو مار جريس ) كان من ليديا _ آسيا الصغرى، والليديون ينحدرون من أصل قفقاسي كما يعتقد البعض، أو جيرانهم وأقربائهم على الأقل.

‏وبدون استطراد كثير، نقول إن قسما من الليديين هاجروا بسبب غزوات شعوب البحر إلى فلسطين، ويعتقد أنهم هم اللذين أسسوا مدينة اللد وسموها باسمهم (ليد ) ثم تحول إلى (لد ) . وقد استرسل البعض  ذلك التوحيد والتقريب ، لما رأوا أنه لا يتناقض مع العقائد الدينية الإسلامية، لأن الخضر يمكن أن يطلق عليه اسم إوشج (أبي المبارك) في القفقاس، ومارجريس في الأناضول ، وغير ذلك، أي أنه يمكن أن يظهر بأشكال مختلفة في أماكن وأزمان متعددة، والله أعلم.

‏والمعجزة الرئيسية لأوشج، أن كل شيء يلمسه بيده يباركه الرب ويتكاثر إن كان صحيحا ، أو يعود كما كان من قبل إن كان نقص منه شيء، كأن يطيب الجرح مثلا، أو يرجع العضو المبتور، أو يعود الطعام الذي نقص من القدر، أو ترجع كمية الماء التي أخذت من البشر أو العين، والنهر بعد جفافه، وغيره، وغيره، إلى ما لا نهاية.

مارج:

‏أما مارج، فهو القائد الشعبي المثالي بلا منازع، والمنافس بلا منافس، وهو بطل حربي وشهيد قومي ووطني ، ويعتبر أبا للشهداء ، ورمزا للتضحية والنداء ، وهو أول الأبطال الشهداء الشعبيين ليس في القفقاس فحسب بل و في ‏العالم أجمع.

‏وتتلخص أسطورته في أنه قاتل لوحده فرقة من الأعداء الشريرين حتى قتل، ولما وصل قومه بعد بلوغهم نبأ القتال، وجدوه قتيلا ملطخا بالدم، وكان الأعداء قد قتلوه شر قتلة، وهربوا تاركين جثته في العراء خوفا من الانتقام، فأخذ رفاقه قميصه الملطخ بالدم، وكان أبيضا فخالطه لون الدم الأحمر، وعلقوه على رأس رمح، ولحقوا بالأعداء إلى عقر دارهم، وانتقموا لبطلهم الوطني وقائدهم الشعبي وشهيدهم القومي وعادوا إلى ديارهم سالمين غانمين.

‏ويزعم القفقاسيون أن أول علم لهم كان هو قميص مارج، وأن الأعلام والرايات لم تكن معروفة قبل مارج، وانما اخترعت بعد ذلك، فيكون قميص مارج الأبيض الملطخ بالدم الأحمر( أحمر على أبيض) أول علم ظهر في العالم، كما تزعم الأسطورة التي تضيف ، ويا للعجب وقرينة الصدق، أن اللون الأحمر لم يكن معروفا لدى الناس في  ذلك الوقت، فكان القفقاسيون يضطرون أن يصبغوا علمهم بجزء من دمهم كلما أرادوا رفع راية لهم في ‏المعارك والمناسبات والاحتفالات وغيرها. وتعجبنا ، وتعجب كل من يطلع على هذه الأسطورة في العالم أجمع، يأتي من الصدق النسبي في هذه الأسطورة، أي من عدم معرفة الناس للون الأحمر قبل اختراعه من قبل الفينيقيين، ووصوله إلى بقية الشعوب عن طريق التجارة البحرية بعد مدة ليست قليلة من اختراعه.

‏وهكذا فإن القفقاسيين أصبح عندهم مارج وقميص مارج وأحيانا قميص مارج القديم، علماً ونداء للنخوة والفداء حتى الآن تقريبا ، و( مارج ) بمعنى (نجدة) .

‏ثم وجدوا ( أي القفقاسيين ) أن ذلك الشعار يتفق مع وضعهم وتاريخهم، بالنظر إلى ثلوج القفقاس البيضاء التي كانت تتلون بدمائهم بسبب حروبهم العديدة ضد الأعداء المغيرين على وطنهم، على مدى التاريخ.

‏وقد أضافوا اللون الأزرق فيما بعد ، وهو رمز البحر والسماء معا ، وأصبح لونا مميزا للقفقاس فيما بعد ، وخاصة أن السماء كانت ترمز عندهم إلى الله، ثم إلى القيادات أيضا فيما بعد ، بدعوى أن الحكام يستمدون سلطتهم من الله، كما كانت العادة في العصور القديمة عند كثير من الشعوب الشرقية، بينما استمرت حتى نهاية العصور الوسطى في الغرب.

‏ونستميح عذرا في أن نتابع قليلا ، للتنويه والتنبيه الضروريين بهذه المناسبة ، عن محاولات البعض إعادة اسم مارج إلى اسم ( مارس) إله الحرب عند الرومان، فذلك ليس صحيحا إطلاقا ، فإن مارج أقدم بكثير من بناء روما نفسها ، وحتى أنه أقدم من اليونان، وربما يكون العكس هو الصحيح، أي أنه يمكن أن يكون اسم مارس محرفا عن مارج، ولكن لا يوجد حتى الوقت الحاضر أي دليل ثابت على صحة إحدى النظريتين رغم رفض البعض لفرضيتنا الثانية، بسبب هجرة الأتروسك من الأناضول إلى إيطاليا قبل بناء روما وظهور الرومان، ومعروف أن الرومان أخذوا كثيرا من عناصر حضارتهم من الأتروسك قبل أن يستولوا عليهم ويصهروهم في بوتقتهم، ويعتقد البعض أن الأتروسك من أصل قفقاسي، فإن لم يكونوا كذلك، فهم جيران القفقاسيين، ومن الطبيعي أن يكونوا اقتبسوا من بعضهم البعض قبل هجرة الأتروسك إلى إيطاليا عبر البحرفي العصور الغابرة. ولكننا لن نلح أكثر من ذلك هذه الفرضية، ولن نخوض في النقاش والجدال الكثير لعدم كفاية الأدلة الحالية، بل نكتفي بلفت النظر وطرح الفكرة ، ونقول ربما يكون الأمر تشابها لفظيا لإسمين مختلفين من لغتين مختلفتين، بمعنيين مختلفين عند شعبين مختلفين تمام الاختلاف، و( كل بما آتيناهم فرحون)ولكن ( الله غني عن العالمين).

د.فؤاد دوغوظ

عن مجلة الإخاء العدد/24/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق