الأحد، 15 يوليو 2018

حكم السلاطين والبكوات الشراكسة لمصر



حكم السلاطين والبكوات الشراكسة لمصر

1250-1517 م ,1517-1801 م


حكم سلاطين الشراكسة مصر، وما كان يتبعها من بلاد الشام والحجاز حكما مباشرا كاملا كسلاطين وملوك لدولتي السلطنة الشركسية الأولى والثانية في مصر، وآلتي عرفت أولاها لدى المؤرخين بدولة المماليك البحرية أو دولة المماليك الأتراك، واستمرت منذ عام 1250م باعتلاء الملكة شجرة الدر لعرش مصر لفترة وجيزة ثم تنازلها عن الحكم لزوجها السلطان أيبك التركماني، وحتى ارتقاء العرش من قبل السلطان الملك الظاهر برقوق عام 1382 م مؤسسا بذلك لدولة السلطنة الشركسية الثانية في مصر، والتي عرفت باسم دولة المماليك البرجية، أو دولة المماليك الشراكسة والتي استمرت حتى الفتح العثماني لمصر من قبل السلطان سليم الثاني العثماني عام 1517 م، بعد نجاحه في هزيمة الجيش المصري بقيادة السلطان الغوري في معركة مرج دابق قرب حلب عام 1516 م، وتوالي انتصاره بعد ذلك على السلطان طومان باي الثاني خليفة السلطان الغوري على مشارف مصر أولا ثم في القاهرة نفسها مرة ثانية، والتي انتهت بأسر أخر سلاطين هذه الدولة وإعدامه على باب زويلة في القاهرة، لتبدأ صفحات الحكم العثماني لمصر، آلا أن الحكم العثماني الجديد كان حكما أسميا إلى حد كبير، حيث استمر تكليف من تبقى من امراء الشراكسة بحكم مصر، بعد تقسيمها إلى 24 ولاية او سنجقا وتعيين الأمراء، الشراكسة حكاما لها تحت اسم او لقب البيك،

كما تولى البعض الأخر منهم مناصب أخرى مهمة كمنصب (الكيخيا )نائب الوالي( وآلخازندا )المسؤول المالي( وأمير الحج )وغيرها من المناصب، كما ظهر بعد فترة بسيطة من الوقت أهم منصب تنفيذي في مصر وهو منصب شيخ البلد الذي يوازي ي منصب رئيس الوزراء حاليا ، وكان التعيين لهذا المنصب يتم بطريقة ديمقراطية باتفاق جميع أو معظم أمراء الشراكسة على تعيين أكفأ الأمراء، والبكوات الشراكسة في هذا المنصب الهام. وهكذا استمر الحكم الشركسي لمصر بطريقة غير مباشرة وتحت الراية العثمانية حتى قدوم الحملة الفرنسية بقيادة الإمبراطور نابليون بونابرت إلى مصر واحتلاله لها عام 1798 م وانسحابه منها بعد فشل حملته العسكرية وتوقيع معاهدة الاستسلام والانسحاب الفرنسية من مصرفي 25 يونيو 1801م

وبالتأمل في أرقام هذه التواريخ نجد أن الشراكسة حكموا مصر حكما مباشرا لمدة 267 عاما ، وحكموها حكما تنفيذيا فعليا غير مباشر تحت راية السلطنة العثمانية في الأستانة مدة 388 عاما ، فإذا عرفنا أن الفتح الإسلامي لمصر بدأ منذ عام 640 م، نجد أن عمر مصر الإسلامية العربية يبلغ 1363 عاما حتى اليوم. وان الحكم الشركسي المباشر لمصر خلال هذه المدة قد بلغ حوالي 20 % من عمرها، كما بلغ الحكم الشركسي غير المباشر تحت الراية العثمانية حوالي28,5% من عمرها، أي إن سنوات حكم الشراكسة لمصر قد ناهزت حوالي 50 % من سنوات عمر وتاريخ مصر الإسلامية العربية  وتدل هذه النسبة العالية، على أهمية الدور الشركسي في مصر خاصة، وضخامة إسهامه في بناء الحضارة الإسلامية العربية في مصر وبلاد الشام والحجاز، والعمل على تطوير هذه الحضارة وتنميتها والدفاع المستميت عنها أمام عوادي الزمان،و التي تمثلت بغزوات مغولية مدمرة همجية ساحقة متكررة، وبحروب وحملات صليبية حاقدة، شرسة، متتالية، يردف بعضها بعضا ، تؤيدها في ذلك وتتحالف معها ممالك ودويلات وجزر مجاورة كمملكة أرمينيا ومملكة قبرص وجزيرتي وودوس وأرواد وغيرها.


ولابد أن الشراكسة قد تواجدوا في مصر ضمن الجيوش الأيوبية التي خاضت غمار حروب التحرير والتوحيد الإسلامية في بلاد الشام ومصر، حيث تشير الكتابات التاريخية إلى أسماء شركسية ضمن قادة هذا الجيش المجاهد، أمثال الأمير إياز كوج القوقا سي رئيس الفرقة الأسدية في الجيش الأيوبي، والأمير فخر الدين إياز الجر كسي القوقازي رئيس الفرقة الصلاحية نسبة إلى كل من القائدين الأيوبيين أسد الدين شيركوه والبطل صلاح الدين الأيوبي. كما أن من المحتمل أن الشراكسة عملوا جنودا وقادة في الجيوش العباسية قبل ذلك، حيث كانت الدولة العباسية قد شرعت في استقدام واستجلاب الجنود من الخارج كما فعل الأيوبيون من بعدهم، بهدف تقوية جيوشهم وتثبيت دعائم حكمهم. كما تعتبر بعض الدراسات التاريخية أن الشراكسة قد عرفوا مصر وأقاموا فيها حكاما ومواطنين من خلال غزو الهكسوس الرعاة القادمين من الشمال أو من جبال القفقاس، وأن هؤلاء الهكسوس ربما كانوا شراكسة قدماء. ويدللون على صحة هذه الفرضية بوجود أسماء شركسية قديمة تحمل أسم مصر مثل مصرخان، ومصرباي، ويضربون الأمثلة على تشابه بعض الكلمات الفرعونية والكلمات الشركسية، و على تشابه الأحرف الهيروغليفية المصرية القديمة مع بعض علامات الوسم الشركسية. وربما كان التواصل بين الطرفين قد تم عن طريق التجارة او من خلال الهجرات العادية او الاضطرارية المتبادلة بين الطرفين على مر الأزمان والعصور.

إذن فالعلاقة الشركسية بمصر هي علاقة مواطنة ومحبة وطيدة راسخة، بعيدة الغور في التاريخ لم تسنح لها فرصة الظهور بوضوح إلا عند تأسيس دولة السلطنة الشركسية الأولى عام 1250 م.

دولة السلطنة الشركسية الاولى في مصر

1250 - - -1382 م
 اضغط لتكبيـر الصورة
يعتبر اعتلاء الملكة شجرة الدر (وهي شركسية او أرمنية وفق الروايات التاريخية) في أواخر عام 1249 م بداية قيام هذه الدولة في رأي بعض المؤرخين، الا ان الغالبية منهم تعتبر اعتلاء الأمير أيبك التركماني لعرش السلطنة بعد زواجه من الملكة شجرة الدر عام 1250 م هو التاريخ الأدق لقيام هذه الدولة  وقد أطلق المؤرخون الغربيون اسم دولة المماليك البحرية على هذه الدولة إشارة لإسكانهم في جزيرة الروضة كجنود متدربين مستقدمين من الخارج بغية تعليمهم تعليما راقيا وتدريبهم تدريبا عسكريا كاملا متميزا في كليات عسكرية داخلية أطلق على الواحدة منها أسم ((الطباق))، تمهيدا لدخولهم في صفوف الجيش المصري بعد تخرجهم، فرسانا أحرارا مقاتلين مجاهدين، ثم ليصبحوا قادة وأمراء للجيوش المصرية الإسلامية فيما بعد. كما أطلقوا عليها أيضا اسم دولة المماليك الأتراك إشارة للأصول التركية لهؤلاء الجنود المستقدمين من الخارج، مع أن اسم الترك أو الأتراك كان اسما شاملا وعاما في تلك العصور، تنطوي تحت مسماه العديد من الشعوب الشمالية كالشراكسة والقبجاق او القفجاق والأس او الأص واللان والكرج والتركمان وغيرهم، مما لاينفي أن تكون هذه الدولة المسماة بدولة المماليك الأتراك هي دولة السلطنة الشركسية الأولى  ولكن ما يثبت هذا القول أن جميع سلاطين هذه الدولة باستثناء السلطان قطز الخوارزمي الأصل او المغولي، والسلطان كتبغا المغولي الأصل، يمكن إعادتهم إلى الأصول الشركسية وفقا لما أورده بعض المؤرخين، كأبي الفداء، والنويري، والبدر العيني والعلامة الشيخ زاهد الكوثري في مؤلفاتهم التاريخيه وكتاباتهم المختلفة. حيث قالوا آن الملكة شجرة الدر شركسية، وأن زوجها السلطان أيبك التركماني شركسي الأصل تركماني الولاء، وأن السلطان بيبرس البندقداري القفجاقي أي القوقازي شركسي وليس تركيا ، وأن اسمه اشتقاق شركسي يفيد معناه باللغة الشركسية المتربص بالعدو او الراصد للعدو، وأن السلطان بيبرس الجاشنكير شركسي دون جدال، وأن السلطان لاجين ليس روميا أو يونانيا بل هو شركسي على الأرجح، أما السلطان قلاوون الذي حكم مصر هو وأ بناؤه وأحفاده السبع عشرة لمدةمئة عام تقريبا ، فهو أيضا من الشراكسة القفجاق او القبجاق، حيث أن نسبته إلى القفجاق أو القبجاق هي نسبة إلى جبال القفقاس التي كان يطلق عليها أحيانا اسم جبال القبجق او القفجاق، وهي أشارة لأصله الشركسي، ومما يرجح هذا الافتراض ما أورده المؤرخ بدر الدين العيني في كتابه الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر، وأيدته ملاحظات العلامة الشيخ زاهد الكوثري إلى أن السلطان قلاوون هو من عائلة برج الشركسية إحدى فروع قبيلة الوبخ الشركسية الكبرى في القفقاس. وأنه أطلق اسم البرجية على الجنود الشراكسة الذين أستقدمهم من موطنه الأصلي القفقاس تيمنا بهذا الاسم لقبيلته الأصلية وحياء له. وليس نسبة إلى  القلعة الذي سكن فيه بعضهم كما ذكر المؤرخون. وهؤلاء الجنود الشراكسة الذين استقدمهم هذا السلطان واستكثر منهم واعتنى بتربيتهم وتدريبهم العسكري، كما فعل ذلك بعض أبناءه وأحفاده من بعده، هم الذين نجحوا بقيادة السلطان برقوق في تأسيس دولة السلطنة الشركسية الثانية في مصر بعد أن دب الضعف والفساد في الحكم نتيجة توريثه لسلاطين أطفال صغار جاهلين في الدولة الأولى.

أما أشهر سلاطين هذه الدولة التي توالى على حكمها 25 سلطانا ، فهم: السلطان قطز الذي قاد الجيش المصري ضد الغزو المغولي الهمجي الجارف لمصر عام 1260 م في معركة عين جالوت الحاسمة، التي حطمت أسطورة الجيش المغولي الذي لايمكن قهره، وألحقت به هزيمة نكراء توالت عليه من بعدها العديد من الهزائم والانكسارات. وقد خلف السلطان قطز في الحكم بعد مقتله أثناء عودته منتصرا إلى القاهرة على يد الأمير بيبرس البندقداري، نتيجة لتفاقم الخلاف الشخصي بينهما، الأمير بيبرس نفسه، الذي تمت مبايعته بالسلطنة أعترافا بجدارته العسكرية وكفاءته القيادية ومواقفه البطولية في معركة تحرير مدينة دمياط المصرية من أيدي الصليبين وأسر قائدهم الملك الفرنسي لويس التاسع خلال تولي شجرة الدر لعرش السلطنة.

واعترافا بدوره القيادي في إلحاق الهزيمة بالجيش المغولي في عين جا لوت بقيادته لقوة الطليعة في الجيش المصري والتي اضطلعت بمهمة الصدمة الأولى للعدو، وزعزعة صفوفه تمهيدا لهزيمته النكراء

أستمر حكم السلطان بيبرس البندقداري منذ عام 1260 م إلى عام 1279 م وقضى معظم سنوات حكمه مجاهدا في معارك متكررة ضد الصليبين والمغول وحلفاءهم، وكانت الغلبة فيها دائما إلى جانبه والنصر حليفا له كما أعاد إحياء الخلافة العباسية في القاهرة بعد قضاء المغول عليها في اجتياحهم وتدميرهم لبغداد، و أعاد أنشاء الأسطول المصري وتقويته، و أرسى دعائم الحكم ونظم شؤون البلاد، وبسط الأمن وأحل السلام . ومن أهم أعماله العسكرية، غزوه لمملكة أرمينيا المعادية في الشمال وهدم عاصمتها سيس، واستيلاءه على مدن قيصرية ويافا وانطاكيا وصافيتا وحصنالحروب ومعظم القلاع الصليبية على الساحل السوري. كما حارب الباطنية الملا حدة في شمال سوريا وقضى عليهم. وتكرر صده وتدميره للهجمات المغولية العديدة على سوريا، و أعاد فتح مملكة أرمينيا وتأديبها مجددا لنقضها العهود السابقة، كما أرسل حملة تأديبية إلى بلاد النوبة في الجنوب، وتوفي عام 1279 م أثناء انهماكه في جولة تفقدية لجنده المرابطين في الثغور حيث أعيد جثمانه إلى دمشق ودفن في المدرسة الظاهرية التي سبق له إنشاءها في مدينة دمشق والتي ما تزال قائمة حتى اليوم.

ومن الجدير بالذكر أن سيرة هذا السلطان المجاهد الشجاع قد عمت الأفاق في العالم الإسلامي تقديرا لانتصاراته الباهرة وبطولاته الكبيرة في الذوذ عن ديار المسلمين، حتى أصبحت سيرة حياتة أسطورة شعبية كبيرة تتناقلها ألسنة الرواة بكل حب وإعجاب وتقدير من جيل إلى جيل  منافسة بذلك السير البطولية الأسطورية لأبي زيد الهلالي وعنترة أبن شداد وحمزة البهلوان وغيرهم .

ومن السلاطين العظام لهذه الدولة السلطان سيف الدين قلاوون الذي تولى الحكم في الفترة 1279 -  1290 م ومن أهم أعماله قيادته للجيش المصري إلى بلاد الشام لمحاربة المغول حيث استطاع هزيمتهم وقتل قائدهم منكوتمر، ثم قاد جيشه إلى مدينة طرابلس الشام واستطاع تحريرها من أيدي الصليبين الذين استمروا في احتلالها طوال  150 عاما . وتوفي عام 1290 م ودفن في البيمارستان الذي أنشأه في القاهرة. وقد عمل هذا السلطان كما أشرنا سابقا على افتداء الأسرى الشراكسة وسباياهم وتخليص الأطفال الشراكسة المختطفين أو المرتهنين لدى المغول الذين كانوا قد استطاعوا احتلال بلاد القفقاس وما جاورها من البلاد في تلك الفترة، ودأبوا على جمع أسراهم وسباياهم وكل من استطاعوا خطفه أو أخذه رهينة لديهم من أهل البلاد المحتلة كدليل على الولاء لحكمهم، وسوقهم للعرض في أسواق شبه جزيرة القرم وفي القاهرة، حيث كان يتم تحريرهم من عبودية الأسر والارتهان الظالم ودفع الفدية المطلوبة عنهم من أموال السلاطين أو الأمراء الخاصة أو من أموال خزينة الدولة، ليتم تجنيدهم كتلاميذ عسكريين أغرار،يتلقون التربية والتعليم الكافيين أولا ثم يتلقون التدريبات العسكرية المختلفة بأجود المقاييس، ليتخرجوا فرسانا أكفاء قادرين على خوض الحروب وكسب المعارك وإحراز الانتصارات. كما أطلق عليهم اسم البرجية نسبة إلى عائلة برج الشركسية من قبيلة الوبيخ كما أشرنا سابقا ، وقد نهج بعض أبناءه نفس نهج هذا السلطان في الاستكثار من افتداء بني جنسهم من الشراكسة وتولي تعليمهم وتدريبهم مما ساعد على ظهور دولة السلطنة الشركسية الثانية امتدادا للدولة الأولى واستمرارا لها.



ومن السلاطين المشهورين في دولة السلطنة الشركسية الأولى السلطان الملك الاشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون الذي تولى الحكم بعد والده السلطان قلاوون عام 1290 م، واستمر في حمل راية الجهاد، فقاد جيشه في حملة عسكرية قوية على مدينة عكا آخر حصون الصليبين المستعصية، فنجح في دكها وطرد الصليبين منها رغم إمدادهم بالنجدة من القبارصة. وقد دب الرعب في نفوس الصليبين بعد هذا الفتح فتركوا حصونهم وقلاعهم في كل من بيروت وصيدا وصور وغيرها وعاد السلطان إلى القاهرة منتصرا مظفرا ومعه الألان من أسرى العدو الصليبيين. ثم اتجه لقتال المغول في حلب ومنها إلى آسيا الصغرى ثم اتجه إلى أرمينيا، وفتح بلاد أرزن الروم، ورجع إلى القاهرة حيث تعرض للاغتيال عام 1293 م .

ومن السلاطين الذين حكموا لفترة طويلة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الذي تولى العرش منذ عام 1293 م واستمر حكمه 33 عاما مع انه خلع في أول عهده ثم أعيد للحكم، وخلع نفسه والتجأ إلى قلعة الكرك بعد سنوات من فترة حكمه الثانية ثم عاد للاستمرار في الحكم ومن أهم أعماله انتصاره على المغول في بلاد الشام مرتين، ومحاصرة عاصمة أرمينيا سيس  وإجبار أهلها على دفع كل ما تأخر عليهم من الجزية للمسلمين. وبعد وفاة السلطان محمد بن قلاوون توالى على عرش السلطنة أطفال صغار جاهلين او شباب أغرار فاسدين، فكان حكمهم ينتهي بعد فترة قصيرة بالعزل أو القتل أو النفي أو الاعتقال، مما مهد الظروف لظهور سلطان قوي يستطيع بسط سيطرته وقيادة جيشه وإدارة دولته بكفاءة واقتدار، وكان هذا الظهور متمثلا في السلطان الملك الظاهر برقوق الذي تولى عرش السلطنة عام 1382 م ليبدأ بحكمه عهد ما ندعوه بدولة السلطنة الشركسية الثانية و الذي يطلق عليه المؤرخون اسم دولة المماليك البرجية أو دولة المماليك الشراكسة

دولة السلطنة الشركسية الثانية

1382- - - - 1517 م
 اضغط لتكبيـر الصورة
يعتبر تولي السلطان الملك الظاهر برقوق لعرش ألسلطنة المصرية عام 1382 م بداية قيام هذه الدولة، وقد أطلق المؤرخون الغربيون و المستشرقون ومن شايعهم اسم دولة المماليك الشراكسة أو دولة المماليك البرجية نسبة إلى أصولهم الشركسية أو إشارة إلى اسكان بعضهم في أحد أبراج القلعة في القاهرة. ويؤكد المؤرخون أن جميع سلاطين هذه الدولة كانوا شراكسة باستثناء الخليفة العباسي الذي حكم ستة أشهر والسلطان خشقدم الرومي أو اليوناني الذي استطاع الحكم مدة ستة سنوات ونصف والسلطان تيمور بغا (تمر بغا)الذي حكم حوالي شهرين فقط. أمآ اشهر سلاطين هذه الدولة فهو أولهم السلطان برقوق الذي استمر حكمه منذ عام 1382 م إلى عام 1398 م باستثناء فترة قصيرة أعيد فيها الحكم إلى السلطان حاجي أخر سلاطين الدولة الأولى عام 1388 م، ألا أن السلطان برقوق أستطاع العودة من منفاه في قلعة الكرك وإنشاء جيش جديد من أنصاره في بلاد الشام والعودة إلى عرشه وحكمه في القاهرة عآم 1389 م.

أستطاع السلطان برقوق هزيمة الجيش المغولي بقيادة تيمور لنك في ناحية سيواس، كما عقد اتفاقا دفاعيا مع العثمانين ضد المغول، وانشأ جسرا فوق نهر الشريعة في الأردن وبنى المدرسة الظاهرية وجامع برقوق وغيرها من المنشآت وتوفي عام 1398 م في القاهرة.

وثاني السلاطين المشهورين في هذه الدولة السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي الذي بويع بالسلطنة عام 1412 م، بعد أن عزل الخليفة العباسي المستعين بالله نفسه من الحكم. وقد قامت ضد السلطان الملك المؤيد شبح ثورة داخلية بقيادة الأمير نوروز في بلاد الشام فنجح في إخضاعها  واستطاع في عام 1414 م أسترداد طرسوس وما حولها من العثمانين، وزار بيت المقدس أثناء عودته للقاهرة، و أرسل أبنه ابراهيم لمحاربة التركمان في شمال شرق الشام فاسترجع منهم ما كانوا قد احتلوه ووصل حتى مدينة قيسا ربة وعاد منتصرا إلى القاهرة ومعه مئات الأسرى. توفي السلطان شيخ المحمودي عام 1421 م ومن أهم منشآته مسجد المؤيد قرب باب زويله.

ومن السلاطين المشهورين السلطان الملك الأشرف برسباي الذي بويع بالسلطنة عام 1422 م ومن أهم أعماله بناء أسطول ضخم و إرساله لفتح جزيرة قبرص موطن القراصنة وقاعدة الصليبين البحرية في غاراتهم المتكررة، حيث تم الأستيلاء على مدن فماغوسته ولارنكا وليماسول، وتم أسر ملك الجزيرة جان لو سينيان الثالث فجرى افتداءه بمبلغ كبير من المال و أطلق سراحه على أن يظل تابعا للحكم المصري ومؤديا لجزيه سنوية كبيرة كما أنه خاض عدة معارك ضد التركمان وأوقف هجماتهم على بلاد الشام، وتوفي عام 1437 م ومن أهم آثاره جامع الأ شرفية في القاهرة.

ومن أطول السلاطين حكما في هذه الدولة السلطان الملك الأشرف قا يتباي الذي حكم مدة 28 عاما ، وابتدأ حكمه وعمره ستين عاما فعمل على إصلاح الأحوال المضطربة والفوضى المنتشرة واستطاع فرض الأمن وتهدئة النفوس واستقرارها، كما سعى لملء خزائن الدولة الخاوية بجمع الضرائب من المواطنين والتجار.

عمل في أوائل حكمه على تجريد عدة حملات عسكرية على(سوار)ملك الابلستين التركمان. واستطاعت الحملة الأخيرة بقيادة الأمير يشبك الدوادار عام 875هـ الحاق الهزيمة بهم، والوصول إلى نهر جيحون وأسر الملك سوار وإحضاره مكبلا بالأغلال إلى القاهرة. واستطاع الجيش المصري احتلال مدينتي اطنه وطرسوس وأسر القائد العثماني أحمد، الا أن العثمانين عادوا و استرجعوا هاتين المدينتين، مما دعا السلطان لأرسال حملة عسكرية قوية بقيادة الأمير ازبك الذي هزم العثمانين مجددا اا وأجبرهم على توقيع الهدنة بين الطرفين عام 896هـ وعاش السلطان بعد هذه الهدنة خمس سنوات قضاها في إدارة البلاد وتعميرها حيث بنى جامعين وعدة وكالات ( أسواق ) وخانات( أستراحات للمسافرين) ومدارس وقناطر (جسور)وأسبلة (مشارب)كثيرة، وتوفي عام 901هـ /495 م

أما السلطان الملك الاشرف قانصوه الغوري الذي تولى الحكم عام 1501م بعد إجماع الأمراء على مبايعته وإصرارهم عليه لقبول عرش السلطنة، فقد عرف بالفطنة والرأي والدهاء وسعة الاطلاع فقمع الفتن الداخلية وأخضع المناوئين لحكمه فاشتد ملكه وعظمت هيبته وهادنته الملوك وهادته و أرسلت أليه سفراءها طلبا لوده وعقد المعاهدات معه. ولكن و لسوء حظ هذا السلطان استطاع البرتغاليون اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح البحري إلى الهند عام 498 1 م مما أفقد مصر موردا ماليا كبيرا كانت تجنيه من الرسوم المفروضة على مرور البضائع فوق أراضيها في طريقها إلى أوروبا. وقد خاض عدة معارك بحرية مع البر تغالين كان النصر في بعضها حليف للمصريين وفي بعضها الآخر للبر تغالين، واستطاع أحد قادة الأسطول المصري إخضاع بلاد اليمن لحكم السلطان الغوري وترك فيها نائبا هو الأمير برسباي الشركسي.

وفي اغسطس عام 1516 م قاد السلطان الغوري الجيش المصري ضد العثمانيين بقيادة السلطان سليم الثاني فجرت معركة كبيرة بين الطرفين في مرج دابق قرب حلب، وكاد النصر أن يكون حليف السلطان الغوري لولا تخاذل كل من نائبي مدينة حلب ومدينة حماة وانسحابهم من القتال مع السلطان الغوري، حيث أخل هذا الانسحاب بميزان القوى في المعركة لصالح العثمانيين كثيرا امن الناحية العددية والمعنوية. بالإضافة لمفاجأة الجيش المصري باستعمال العثمانيين لسلاح المدفعية الحديث، مما أسفر عن هزيمة الجيش المصري ومقتل السلطان الغوري في أرض المعركة، وهو يبلغ من العمر 76 عاما بعد حكم أستمر 15 عاما و  10 أشهر تقريبا ، وقد ترك عدة منشآت معمارية أهمها ميدان القلعة وجامعين وقصر المقياس وقاعة العواميد والعديد من القلاع والجسور والترع والأسبلة وغيرها.

وتلاه في الحكم أبن أخيه السلطان الملك الأشرف طومان باي الثاني، بعد وصول نبأ مقتله في المعركة إلى القاهرة  وقد وصلته رسالة تدعوه للاستسلام من السلطان سليم الثاني فرفض ذلك  و أعاد تجميع الجيش المصري وقاده لملاقاة العثمانيين قرب بركة الحج في 29 ذي الحجة 922 _ فاقتتلا طويلا ، ولكن المدافع العثمانية رجحت كفة العثمانيين رغم شجاعة وبطولة السلطان طومان باي وجنوده، فانسحب إلى القاهرة، وزحف العثمانيون إلى الروضة  وعاود السلطان طومان باي الهجوم على العثمانيين ولكنه فشل أيضا اا في هزيمتهم  فعاد إلى القاهرة وتحصن فيها، وأقام في كل شارع وكل بيت طابية(موقع دفاعي) وحمل السلاح في القاهرة كل من يستطيع ذلك  الا أن كثرة العثمانين وسلاح المدفعية الحديث بين أيديهم ساعدهم في التغلب على جنود السلطان طومان باي، ونجحوا في أحتلال القاهرة عنوة و أمعنوا فيها قتلا وتدميراوتحريقاوتخريبا ، وكانت الخسائر في الطرفين خسائر فادحة، وكان ضمن القتلى العثمانيين الوزير الأول للسلطان سليم سنان باشا. وبعد احتلال القاهرة لجأ السلطان طومان باي إلى الدلتا، و أقام عند أحد شيوخ العربان الذي كان قد أجاره و أطلق سراحه و أنجاه من السجن والقتل بالتشفع له عند السلطان الغوري، ألا أن هذا الشيخ أظهر الخيانة والغدر بدلا من العرفان والوفاء، فاستدعى جنود السلطان سليم لإلقاء القبض عليه و اقتياده أسيرا إلى السلطان سليم الثاني العثماني الذي أبدى إعجابه بشجاعته و إقدامه، وفكر في العفو عنه، إلا أن الأمراء من حولهأشاروا عليه بقتله والتخلص منه، فأمر بقتله حيث تم شنقه على باب زويلة في 19 ربيع أول 923 هـ/ 1517 م لينتهي بذلك عهد دولة السلطنة الشركسية الثانية.

حكم الأمراء والبكوات الشراكسة لمصر

تحت الراية العثمانية

1517 - - - -1801م
اضغط لتكبيـر الصورة
بعد أن استتبت الأمور للسلطان سليم الثاني في مصر، عين الأمير خايربك الشركسي واليا عنه في مصر ومنحه لقب الباشا، لقاء ما قدمه اليه من مساعدة في كسر الجيش المصري في معركة مرج دابق، وفي احتلال القاهرة، وقسم مصر إلى 24 ولاية (أو سنجق)وعين على كل ولاية أميرا أو "بيكا " من الشراكسة لحكمها و إدارة شؤونها، كما انشأ وظائف أخرى كالكيخيا (نائب الوالي)والخازند ار (لأمور المالية)و أمير الحج كما ظهر بين أمراء الشراكسة بعد فترة وجيزه من الوقت من يشغل، أهم منصب تنفيذي مستحدث في البلاد وهو منصب ثسيخ البلد الذي يقابل منصب رئيس الوزراء حاليا حيث كان يجري أتفاق كبار أمراء الشراكسة وبكواتهم على انتخابه، ليتمتع بنفوذ مطلق وبالسلطة الفعلية في مصر بحيث كان يستطيع عزل الوالي العثماني من منصبه و إعادته إلى الأستأنه بسهولة ليقوم السلطان العثماني بإرسال وال عثماني آخر على أمل أن يقبل به شيخ البلد وبقية البكوات الشراكسة ليستطيع الاستمرار في منصبه الفخري،ممثلا للسلطان العثماني دون أية سلطات تنفيذية أو فعلية تذكر.وقد قام البكوات الشراكسة كل في ولايته بحفظ الأمن، وحسم النزاعات وتحصيل الضرائب والخراج ودفع رواتب الجنود والموظفين، و إجراء المصاريف الإدارية الأخرى. وقد اضطر البكوات الشراكسة بعد أنحسار حكم دولة السلطنة الشركسية الثانية للعمل بتعليمات إدارية تصدرها الحكومة العثمانية، وقد أثبتت هذه التعليمات فشلها في إحداث أية تطورات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، وكان من أهم المعيقات للتطور الاقتصادي فرض نظام الالتزام على البكوات الشراكسة للعمل به، والذي يتلخص في توكيل مهمة جمع الضرائب لأشخاص يقومون بجمعها من المواطنين بدلا من الحكومة، مقابل دفعهم لمبلغ معين من المال للحكومة سلفا ، حيث يسمى هؤلاء بالملتزمين ومفردها الملتزم أي الشخص الذي أشترى مهمة جمع الضرائب من الحكومة، وغالبا ما كان الملتزم، وبدوافع الجشع والطمع والاستغلال يشتط ويقسو على المواطنين في تحصيل الضرائب وجباية الخراج بنسب وتقديرات زائدة جائرة، ليستطيع مضاعفة أرباحه في فترة وجيزة كما أن النظام القضائي تعرض للضعف وفقد هيبته، نتيجة لإلغاء نظام القضاة الأربعة على مختلف المذاهب الإسلامية، بتعيين قاض و احد فقط يسمى قاضي العسكر، مما أضعف منصب القضاء وتسربت منه الكفاءات السابقة  أما الثقافة و العلوم والآداب فقد أنتابها الضعف والركود نتيجة اعتماد اللغة التركية كلغة رسمية للبلاد  كما أن نهب المكتبات والمخطوطات والمؤلفات ونقلها إلى الآستانة، وقلة عدد المدارس وقلة الاهتمام بالتعليم زادت من حدة الضعف والركود فتراجعت الآداب والعلوم وتناقص الأدباء والمفكرون. إبان الحكم العثماني لمصر وبلاد الشام والحجاز.

ومن الملاحظ تحامل المؤرخين على بكوات الشراكسة في العهد العثماني وتحميلهم مسؤولية تدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر ويتناسون ويتجاهلون أن الأوامر وأنظمة الحكم والإدارة وقوانينها كانت تصارعن السلطان العثماني وديوانه في الآستانة وترسل إلى الولايات ومن ضمنها ولاية مصر للعمل بها وتطبيقها، وقد حاول البكرات الشراكسة تطبيق هذه الأنظمة والتعليمات والقوانين على أفضل الوجوه وأصلحها، طالما سمحت لهم بذلك الظروف الداخلية و الخارجية المختلفة والتي كانت عرضة لكثير من الهزات والتغيرات.

ومما يدل على محاولات التنمية والبناء والتطوير للبكوات الشراكسة أن فترات الاستقلال الشركسي القصيرة بحكم مصر وفترات تولي منصب مشيخة ألبلد من قبل أمراء وبكوات شراكسة أقوياء أكفاء، كانت سنوات تقدم ورخاء و أمن و عدالة وسلام، ومن أمثلة ذلك فترة الاستقلال القصيرة التي أستطاع انتزاعها الأمير علي بك الكبير عند استلامه منصب شيخ البلد عام 1177 هـ  / 1763 م، وبعد بضعة سنوات أعلن استقلال مصر عن الدولة العثمانية عام 1183 هـ  /1769 م وحمل لقب سلطان مصر وخاقان البحرين، واستمر حكمه حتى مايو 1187 هـ / 1773 م حيث توفي نتيجة جراح أصيب بها في معركة مع منافسه الأمير محمد بيك أبي الذهب. كما انتشر السلام والرخاء والتقدم في عهد الأمير قاسم عيواظ بيك في الفترة 1120- 1136 هـ وكذلك في عهد ابنه الأمير اسماعيل بيك وعهد الأمير عثمان بيك. وهكذا استمر الحكم في مصر، حكما فعليا تنفيذيا لامراء وبكوات الشراكسة وحكما عثمانيا أسميا تحت الراية العثمانية. وظل الأمر كذلك إلى حين قدوم الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونا برت عام 1213 هـ / 1798 م، فتصدى له الأمراء والبكوات الشراكسة وفي مقدمتهم الأمير ابراهيم بيك و الأمير مراد بيك والأمير أيوب بيك، والأمير عثمان بيك البرديسي والأمير محمد بيك الألفي وظلت الجيوش الفرنسية التي استطاعت غزو مصر واحتلال القاهرة تعاني من الهجمات المعاكسة والغارات المفاجئة التي كان يقودها هؤلاء الأمراء بالإضافة للمقاومة الشعبية والثورات الوطنية التي كانت تتفجر وتندلع من بين صفوف جماهير الشعب المصري ضد هذا الاحتلال. وكان لفشل الحملة الفرنسية في احتلال مدينة عكا بعد حصارها الطويل، ونتيجة تظافر الجهود الإنجليزية والعثمانية ضد الوجود الفرنسي، وانكسار الجيش الفرنسي أمام الأسطول الانجليزي في معركتي أبي قير ورشيد أثر كبير في استسلام القوات الفرنسية وانسحابها من مصر، وتوقيع معاهدة بهذا الشأن في 25 يونيو 1801 م. وقد أدت الحملة الفرنسية إلى ضعف نفوذ البكوات الشراكسة في مصر نتيجة لسقوط آلاف الضحايا منهم في معاركهم المتكررة ضد القوات الفرنسية، كما تعرضوا مرارا لمؤامرات غادرة ومحاولات تصفية شاملة من قبل الولاة العثمانيين كالوالي حسن باشا عام 1801 م والوالي خسرو باشا عام 1216هـ وظهر في هذه الأثناء محمد علي باشا كقائد للجند خلفا لسيده طاهر باشا أحد قادة الجند في القوة العثمانية التي أرسلت إلى مصر، والذي استطاع بمكره ودهائه ونجاحه في زرع الفتن وتأجيج النزاعات بين أمراء الشراكسة وبكواتهم والولاة العثمانيين من جهة، ثم بين أمراء الشراكسة أنفسهم من جهة أخرى، أن ينتزع حكم مصر بصدور مرسوم السلطان العثماني في يوليه 1805 م بتعينه واليا على مصر.

وقد أستمر بكوات الشراكسة وأمراءهم في مقاومة محمد علي باشا لعدة سنوات، وهو يستعمل معهم سياسة الكر و الفر، والمهادنة والخداع حتى استطاع تدبير مكيدة بشعة غادرة لمعظم هؤلاء البكوات والأمراء الشراكسة بأن دعاهم إلى وليمة واحتفال كبير يقيمه لوداع أبنه طوسون الذي عينه قائدا على رأس حملة عسكرية إلى بلاد الحجاز يوم الجمعة 2 مارس 1811م  وبعد انتهاء الحفلة ومحاولة أمراء الشراكسة وبكواتهم المدعوين للوليمة والأحتفال الخروج من القلعة جرى إغلاق الأبواب عليهم وتم حصرهم في الممر الضيق المؤدي إلى الباب الرئيسي، وأعمل فيهم جنود محمد علي باشا الضرب بالنيران من فوق الأسرار، ليسقط المئات قتلى فوق بعضهم البعض، ثم أنهم امسكوا بالجرحى ومن بقي حيا منهم وساقوهم إلى القتل بالسيوف،حتى تم القضاء على جميع أمراء وبكوات الشراكسة وفرسانهم بحيث بلغ عدد قتلاهم في داخل القلعة حوالي 500 قتيل، كما قتل مئات آخرون في مختلف أنحاء القاهرة وما جاورها من أقاليم، وقد استطاع أمير شركسي واحد هو الأمير أمين بيك القفز بجواده عن سور القلعة الشاهق حيث نفق الجواد واستطاع هو الهرب إلى سوريا ومنها إلى الأستانة حيث علم السلطان العثماني بقصته فاستقبله وأكرمه ومنحه رتبة الباشا تقديرا لشجاعته الكبيرة ومهارته النادرة. أما من بقي حيا من أمراء الشراكسة وبكواتهم فقد ارتحلوا إلى مدينة دنقلة جنوب السودان، فتبعهم ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا بجيوشه للقضاء عليهم، فهربوا في كل الجهات وتشتتوا في مختلف الأرجاء في السودان وليبيا وغيرها من الدول الأفريقية.



والغريب في الأمر أن هذا الطاغية الغدار محمد علي باشا، لم يجد مناصا من الاستعانة بأطفال أعداءه من الشراكسة الذين أبادهم بالأمس في مذبحة القلعة المشؤومة، فعمل على جمع حوالي 2000 طفل صغير منهم معظمهم من أبناء الأمراء، والبكوات المغدورين في القلعة وخارجها على يد جنوده، وانشأ لهم كلية حربية خاصة في القلعة حيث جرى تعليمهم وتدريبهم عسكريا وفنيا في مختلف الاختصاصات

 وتم ارسال المتفوقين منهم في بعثات دراسية الى فرنسا، فكان من هؤلاء الاطفال وانضمامهم لصفوف الجيش المصري بعثا للحيوية والقوة فيه. حيث أعيد تنظيمه وتسليحه وتولى قيادة معظم فرقه العسكرية قادة شراكسة متميزون بالكفاءة العسكرية والقيادة المتميزة  حيث تمكن الجيش المصري من إحراز انتصاراته الباهرة وتحقيق فتوحاته الكبيرة في كل من سوريا والاناضول والسودان  كما ظهر العديد من القادة السياسيين الشراكسة، كرؤساء للوزارات ووزراء ورؤساء لمجلس الشورى ومجلس النواب المصري واستمرت أسرة محمد علي باشا في الحكم حتى أطيح بها في ثورة 23 يوليو 1952 م. وكان للشراكسة كغيرهم من المواطنين المصريين دور ايجابي هام و فعال في الإعداد لهذه الثورة ونجاحها وبناء جمهورية مصر العربية الحديثة  حيث كان أول رئيس وزراء في عهد هذه الثورة شركسيا هو دولة الرئيس علي باشا ماهر  كما كان البطل الشركسي المشهور عزيز بيك المصري أحد ابرز رواد حركة القومية العربية في الأستانة ومصر، مرجعا استشاريا للضباط الأحرار الذين قادوا الثورة،وأبا روحيا لحركتهم الوطنية، يمدهم بنصائحه ويفيدهم بخبراته الطويلة التي أكتسبها من خلال تمر سه في قيادة الكفاح القومي العربي ضد الحكم العثماني في الأستانة، ثم من خلال قيادته المستمرة للكفاح الوطني المصري ضد الاحتلال الانجليزي البغيض. ومن الشخصيات الشركسية التي ظهرت في مصر العربية في السنوات الأخيرة دولة رئيس الوزراء محمود فوزي حاخو شابسوغ الذي خدم في السلك الدبلوماسي المصري منذ عام 1922 م ممثلا لمصر في ايطاليا وامريكا واليابان واليونان، ثم ممثلا لمصر في الأمم المتحدة عام 1946 ، ثم عمل وزيرا للخارجية منذ عام 1953 م الى عام 1967 م واصبح رئيسا للوزراء في مصر في أكتوبر 1970 م ثم قدم استقالته في كانون ثاني 1972 م نتيجة خلافه مع الرئيس المصري محمد أنور السادات، وتوفي في القاهرة عام 1980 م. كما كان شقيقه الفريق أول محمد فوزي حاخو شابسوغ من الشخصيات العسكرية المصرية المتميزة، حيث أستلم قيادة القوات المصرية بعد حرب حزيران 1967 م واصبح وزيرا للدفاع منذ عام 1967 م إلى عام 1971 م حيث أبلى بلاء حسنا في حرب الأستنزاف المصرية ضد العدو الصهيوني، ونجح في بناء حائط الصد الصاروخي للعدو. غير أن الرئيس السادات أتهمه بالتآمر ضده وطالب بإعدامه، إلا أن القضاء المصري رفض الحكم بإعدامه لعدم ارتكابه الخيانة العظمى للوطن ولكونه قائدا سابقا للجيش المصري. وقد أطلق سراحه في عهد الرئيس حسني مبارك  ولما أصيب بالمرض تم إيفاده على نفقة الدولة للعلاج في الخارج  وقد عاد الى القاهرة وتوفي فيها بتاريخ شباط عام 2000م وشارك في تشييع جثمانه الرئيس المصري حسني مبارك تقديرا لتفانيه في أداء واجباته و إخلاصه في خدماته السابقة ضمن صفوف الجيش المصري الباسل.

مجلة (نارت)

بقلم: فيصل حبطوش خوت ابزاخ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق