الأربعاء، 9 أغسطس 2017

ملامح من أوضاع القفقاس الشمالي في الألف الأول قبل الميلاد


يتناول البحث الذي بين أيدينا الوضع في منطقة القفقاس الشمالي خلال الألف الأول ق.م. ولقد ركزنا على هذه الفترة من تاريخ القفقاس، وذلك لأنها تمثل مرحلة هامة من مراحل تاريخ هذه المنطقة، حيث جرت على أراضيها تحولات جوهرية هامة، تمثلت بانتشار استخدام الحديد إلى جانب البرونز، وبدخول مجموعات بشرية جديدة إلى مناطق القفقاس الشمالي المختلفة، تركت أثرها في سكانه المحليين وتأثرت بهم من مختلف النواحي العرقية والاقتصادية والروحية واللغوية، ومن أهم هذه المجموعات البشرية: الكيميريون والسكيث والسارمات، وأخيرا ظهور أقدم الدول التي بحوزتنا معلومات عنها في القفقاس الشمالي ونقصد بذلك دولة سينديك.
‏وسنعتمد في دراستنا هذه على مصدرين أساسيين، يعتبران عماد الدراسات المتعلقة في التاريخ القديم، ونعني بذلك المصدر الأثري، فلا احد يستطيع إنكار الأهمية القصوى لنتائج البحث الأثري سواء  إعطاء رؤية جديدة لبعض المراحل التاريخية، أو في إثبات أو نفي بعض الروايات التي ترد في كتابات المؤرخين.


‏وأما المصدر الآخر، فهو الكتابات المختلفة التي جاءتنا عن منطقة القفقاس، وهي في مجال بحثنا هذا كتابات المؤرخين الإغريق والرومان. وتتوافر هذه الكتابات عن منطقة القفقاس منذ مطلع الألف الأول ق.م. لكن الكتابات المبكرة، أي تلك التي تسبق القرن السادس ق.م يغلب عليها الطابع الأدبي والأسطوري، ولذلك فإننا لن نتطرق إليها وسنكتفي بالكتابات في ذات الطابع التاريخي وهي التي تعود إلى ما بعد القرن السادس ق.م.

‏وبما أن اللقى الأثرية سابقة للمادة التاريخية الكتابية من حيث تاريخها ، فإننا سنبدأ دراستنا باستعراض أهم الحضارات التي قامت في منطقة القفقاس الشمالي منذ مطلع الألف الأول ق.م وحتى القرن السادس ق.م.

‏تشير الدراسات الأثرية المعمقة التي جرت على مواد عثر عليها في مواقع مختلفة من القفقاس الشمالي إلى وجود ثلاثة نماذج حضارية مختلفة فيما بينها بنسب متفاوتة في هذه المنطقة الواسعة

1 ‏-  النموذج الأول: وهو الذي أطلق عليه اسم نموذج الحضارة الكياكنيتية - الخوروشوفية. وانتشرت مظاهر هذه الحضارة في مناطق الداغستان سواء الجبلية منها أو السهلية. وكانت لها صلات واسعة مع المراكز الحضارية القائمة في مناطق شرق ما وراء القفقاس.

2 -  حضارة الكبان: نسبة إلى قرية كبان في أوسيتية الشمالية، والتي عثر بالقرب منها في عام 1869 ‏م على أولى المقابر الممثلة لهذه الحضارة. وقد غطت مظاهر هذه الحضارة منطقة وسط القفقاس الشمالي بمجمله من نهر أرغون حتى أعالي نهر الكوبان.

3 ‏-  حضارة الكوبان: وتبدأ منطقة انتشارها من حوض الكوبان الأعلى حتى شواطئ البحر الأسود. وتتشابه هذه الحضارة مع سابقتها في كثير من المظاهر، وإن كانت تختلف عنها في بعضها. فمثلا إن الفأس المميزة للحضارة الكبانية تتميز برشاقتها وبأن لها التواءين أو عاقفتين. أما الفأس الكوبانية فتتميز بنصل حاد وبرأس يمكن أن يستخدم كمدق.

‏إن الدراسة المعمقة لأدوات العمل وأنماط الحياة المميزة لكل واحدة من هذه الحضارات الثلاث، توصل إلى نتيجة مفادها أن أصول هذه الحضارات الثلاث واحد وتعود إلى العصر البرونزي ( أي إلى الألف الثالث ق.م ) .

لقد شهدت المرحلة التاريخية التي تغطي الفترة من نهاية الألف الثاني ق.م إلى مطلع القرن السابع ق.م تقريبا صلات واسعة ربطت بين مناطق شمال القفقاس من جهة ومختلف مناطق العالم القديم من جهة أخرى (جنوب القفقاس، الأناضول، شمال بلاد الرافدين وشمال سورية)، الأمر الذي تشهد عليه اللقى الأثرية التي عثر عليها في مقابر شمالي القفقاس، وكمثال على ذلك يمكن أن نورد بعض الأمثلة : فمثلا عثر في منطقة ديغوريا على مجموعة من الخناجر • التي يطلق عليها الآثاريون اسم الخناجر الآسيوية، والتي انتشرت في مناطق الشرق القديم المختلفة بكثرة في نهاية الألف الثاني ق.م، كما عثر في نفس المنطقة على مجموعة من الخوذات البرونزية ذات النمط الآشوري أو الأورارتي. ومعروفة أيضا الكؤوس الفضية والمزخرفة بشكل بديع والمدون عليها كتابات آرامية والتي عثر عليها في قرية قازبك وهي تؤرخ في الفترة الواقعة بين القرنين السادس والخامس ق.م، ومن المعروف أن هذه القرية تقع بين أوسيتيا الشمالية والجنوبية الحالية.

بدءا من نهاية القرن الثامن ق.م ومطلع القرن السابع، تبدأ بالظهور في شمالي القفقاس آثار ما يسمى بالحضارة الميؤتية. وتغطي آثار هذه الحضارة منطقة واسعة من شمالي القفقاس وتؤرخ آثارها على فترتين زمنيتين متتاليتين، تسمى أولاهما الحضارة الميؤتية المبكرة، والثانية الحضارة الميؤتية. وتمتد آثار هاتين المرحلتين زمنيا حتى حدود القرن الخامس ق.م. ولعل أهم أثارها تلك التي عثر عليها في مواقع كيليمرسك، كوسترومسك، اولسك، وغيرها ، وتشمل هذه الآثار مجموعة نفيسة من التماثيل الحيوانية الذهبية وغيرها.

‏وننتقل الآن إلى المصادر الكتابية، وهي كما اشرنا آنفا كتابات المؤرخين والجغرافيين الإغريق والرومان، لنرى ما هي المعلومات التي تمدنا بها فيما يتعلق بالقفقاس الشمالي عن الفترة موضوع البحث.

‏أولا لابد من الإشارة إلى أن معرفة الإغريق بمناطق القفقاس عموما ، والشمالي خصوصا كانت نتيجة للصلات التجارية التي نشأت بين بلاد القفقاس من ناحية وبلاد الإغريق من ناحية أخرى. وقد بدأت هذه الصلات منذ عصور مبكرة تعود ربما إلى الألف الثاني ق.م، وتطورت في النصف الأول من الألف الأول ق.م لتتحول إلى ما يعرف في التاريخ بحركة الاستيطان الإغريقي في شواطئ البحر الأسود المختلفة ومن بينها الشواطئ القفقاسية. وقد تحولت هذه المستوطنات التجارية الإغريقية فيما بعد إلى مدن ودول مدن على نمط دول المدن الإغريقية. وعند هذا الحد تعمقت معرفة الإغريق بمناطق القفقاس. وإذ ا كانت المعلومات الأولى لدى المؤرخين الإغريق معلومات شفهية، أي ما كان ينقله إليهم من كان يزور مناطق القفقاس الشمالي من التجار والبحارة، فإن هذه المعلومات أصبحت أكثر دقة وثقة بدءا من القرن السادس ق.م عندما قام بعض هؤلاء المؤرخين بزيارة مناطق القفقاس الشمالي المختلفة بأنفسهم. ولعل أهم الكتاب الذين قاموا لنا معلومات عن شمالي القفقاس وشعوبه كان هيكاتيس الملطي وأرسطو البروكونوسي وهيسيود وهيرودوت والجغرافي استرابون وغيرهم. ويقدم لنا هؤلاء الكتاب معلومات عن شعوب القفقاس المحلية مثلما يقدمون لنا معلومات عن شعوب مختلفة دخلت مناطق القفقاس الشمالي المختلفة، وسنبدأ أولا بذكر ما تخبرنا به مؤلفات هؤلاء الكتاب عن شعوب القفقاس المحلية، ونقصد بذلك القبائل الميؤتية

إن أول ذكر لهذه القبائل يرد عند هيكاتيوس الملطي (القرن السادس ق.م) مؤلف كتاب "وصف الارض"، ويعدد هيكاتيوس في مؤلفه هذا أسماء مجموعة من القبائل دون أن يحدد أماكن تواجدها بدقة. أما القبائل التي يذكرها فهي الدانداريون و التيبانيسيون و الايكسيباتيون والسينديون.

‏أما هيرودوت (من القرن الخامس ق.م) فإنه يكتفي بذكر أرض السنديين وأرض الميؤتيين دون أن يذكر أسماء قبائل محددة.

‏وتتم القائمة التي يوردها هيلاتيكوس الملطي للقبائل الميؤتية تلك التي سبق وأوردها هيكاتيوس الملطي. فهذا المؤلف يورد اسم قبيلتين ميؤتيتين هما الكركت والخاريمات.

‏ومن خلال دراسة المصادر التي تذكر القبائل سواء تلك التي ذكرناها آنفا أو لم نذكرها، نستطيع أن نحدد أماكن توضع هذه القبائل على النحو التالي: شبه جزيرة تامان والمناطق المحيطة بها في مجاري الكوبان وحتى أنابا الحالية ( غور غيبيا القديمة ) كانت مسكونة من قبل السينديين. وقد جاورتهم قبائل قريبة منهم وهم: من الجنوب التوريت، ومن الشمال الكركت، الداندار على مجرى نهر الكوبان الأعلى. وكانت هناك مجموعة من القبائل تعيش على الشواطئ الشرقية لبحر أزوف من مثل الدوسخيين و التارباتيين. وإلى الشرق أكثر في المجرى الأوسط لنهر الكوبان كان يعيش البسيس والغات. وبما أن السنديين كانوا أهم مجموعة ميؤتية، وكانت لهم علاقات وطيدة مع الإغريق، وتوصلوا لتشكيل حكومة خاصة بهم، فإننا سنتوقف قليلا عندهم.

‏نبدأ أولا بذكر أصل الاسم، في الحقيقة لا يوجد اتفاق بين الباحثين حول هذه المسالة، فهناك رأي قديم كان قد طرحه الباحث لوباتينسكي يقول فيه إن هذا الاسم ماهو إلا (صدى للاسم العرقي المحلي شيند جيشف والذي كان الأوبيخ بناء على معطيات أوسلار، يسمون به جيرانهم الأبزاخ) رغم أن هذه الفرضية تعرضت في الآونة الأخيرة لانتقادات كثيرة. والبعض يترجمها بصيغة " على البحر " أي القاطنون على شاطئ البحر.

وكما ذكرنا آنفا فإن هؤلاء السينديين كانوا يسكنون في شبه جزيرة تامان والمناطق المحيطة بها من شواطئ البحر الأسود وحتى انابا ومن ثم حتى محطة رايفسكا - ناتوخايفكايا. أما الحدود الشمالية لسينديك فهي نهر الكوبان، وتصل حدودها الشرقية إلى منطقة القرم ( وليس شبه جزيرة القرم) حيث توجد بقايا مدينة تضم منشآت مختلفة.


‏لقد أسس الإغريق في الجزء الغربي من سينديك مجموعة من المستوطنات كان أكبرها مستوطنة فاناغوريا. وقد أسس هذه المستوطنة مهاجرون من مدينة ثيوس. وفي مكان تامان الحالية أسست مدينة هيرموناس من قبل مهاجرين من جزيرة لسبوس (بحر إيجة). وأما في الجزء الشمالي من شبه جزيرة تامان فكانت هناك مدن وقرى آخيل و كيمرك وباتري وتيرامب وغيرها. أما على الشواطئ الشرقية لخليج تامان، فقد أسس الملطيون مدينة كيبي.

‏دخل الإغريق الذين استوطنوا هنا في علاقات وثيقة مع القبائل السيندية الحلية الأمر الذي سرع من عملية تطورها الاجتماعي والاقتصادي أكثر من بقية القبائل الميؤتية. وربما يفسر هذا الأمر ذكر السينديين في المصادر الكلاسيكية المختلفة كمجموعة قبلية مستقلة عن باقي القبائل الميؤتية.

لقد تحولت المستوطنات الأولى التي أسسها الإغريق إلى دول مدن مستقلة على النمط الإغريقي. وفي الربع الأول من القرن الخامس ق.م ( نحو العام 480 ‏ق.م) توحدت هذه الدول تحت زعامة مدينة بانتي كابيا ( كيرتش الحالية)في دولة واحدة أطلق عليها اسم دولة البوسبور، والتي امتدت أراضيها على جانبي مضيق كيرتش الحالي أو كما يسمى في المصادر الكلاسيكية بالمضيق الكيميري أو البوسبور الكيميري.

بهذا الشكل فإن السينديين الذين كانوا يعيشون في شبه جزيرة تامان يكونون قد دخلوا في إطار هذه الدولة، في حين بقي القسم الشرقي من سينديك مستقلا. لقد ظهرت في القسم الشرقي من سينديك في حدود القرنين السادس والخامس ق.م مجموعة من المدن لعل أهمها الميناء السيندي والذي يعتقد معظم الباحثين أن مكانه موجود في مكان غورغيبا الكلاسيكية ( أنابا الحالية). ومن شبه المؤكد أن السينديين الشرقيين قد أسسوا دولة لهم منذ الربع الأخير من القرن الخامس ق.م. ومما يدل على ذلك التطور الكبير للحياة الاقتصادية والاجتماعية عند هؤلاء السينديين، الأمر الذي تؤكده اللقى الأثرية ، وكذلك وجود المدن وسك النقود الفضية التي نقش عليها رأس فيل وكتب عليها الاسم "سيندون".

 كانت العلاقة بين دولة البوسبور وهذه الدولة السيندية جيدة ويغلب عليها الطابع السلمي على الاقل في الفترة الأولى من تاريخها ، وربما كان من أسباب ذلك تعرض الطرفين لعدو واحد ألا وهو السكيف الذين كانوا يقومون بحملاتهم عبر بلاد البوسبور عابرين المضيق وصولا إلى أراضي السينديين كل عام. ويرى بعض الباحثين في هذه الحملات رحلات شتوية بحثا عن المراعي عندما كان يحل الشتاء بقسوته على منطقة السهوب المسكونة من قبل القبائل السكيفية، ويصل بعض الدارسين في افتراضاتهم إلى أن هؤلاء السينديين قد ساعدوا البوسبوريين في إعادة بناء تحصينات مدنهم التي دمرها السكيف وبنوا معهم خطوطا دفاعية على حدود دولة البوسبور مع أماكن انتشار القبائل السكيفية، وذلك منعا لهذه القبائل من الوصول إلى سينديك.

‏ونتوقف هنا عند رواية يوردها مؤرخ من منتصف القرن الثاني الميلادي اسمه يوليان، ولكن الأحداث التي يتحدث عنها ربما تعود إلى مطلع القرن الخامس ق.م، عندما كانت سينديك لا تزال دولة مستقلة، لكنها ترتبط بعلاقات وثيقة مع البوسبور بما فيها علاقات مصاهرة. في هذه الرواية يظهر الملك البوسبوري ساتير الأول الذي حكم بين العامين 433 ‏- 389 ‏ق.م، كأقوى شخصية في المنطقة، وحليف للملك السيندي غيكاتيا. وإلى جانب هذين الملكين هناك زعيم لإحدى القبائل الميؤتية وهي قبيلة ايكسومات (كما يسميها المؤلف) المدعو تارغاتاو. ويتجلى التحالف والمساواة النسبية بين هذه الشخصيات الثلاث من خلال علاقة المصاهرة التي كانت تربط بينهم : فالملك السيندي كان متزوجا بابنة الزعيم القبلي، وفيما بعد تزوج هذا الملك بالزوجة السابقة للملك البوسبوري. وإذ ا ما أردنا أن نوضح أكثر نقول إن ساتير الأول قدم زوجته السابقة للملك السندي غيكاتيا ، ولما كان غيكاتيا متزوجا ابنة تورغاتاو، فإنه اضطر لتطليقها ، أو كما تلمح الرواية إلى محاولة قتلها . وننتقل الآن من الرواية إلى الواقع التاريخي لنقول إنه ربما بدأت في هذا الوقت محاولات ملوك البوسبور فرض سيادتهم على دولة سينديك الشرقية أو على مجمل القبائل السندية والتي كان على رأسها تورغاتاو، وكما يذكر يوليان، فإن ملك السيند غورغيبا ذهب بنفسه إلى تورغاتا ومحملا بهدايا ثمينة وطالبا إنهاء الحرب.

‏إلا أن مقاومة هذه القبائل انتهت نحو منتصف القرن الرابع ق.م 0 ‏وأصبحت سينديك بقسميها الشرقي والغربي منضوية تحت لواء الدولة البوسبورية.

‏إن اهم الآثار التي خلفتها لنا بلاد السيند ما يسمى بكورغانات الإخوة السبع ( والكورغان نمط من المدافن قسم منه مبني فوق الأرض، وحجرة الدفن نفسها تكون تحت الأرض) . وتقع هذه الكورغانات في منطقة المجرى الأسفل لنهر الكوبان، وعلى ضفته اليسرى، على بعد نحو اثني عشر كيلومترا من محطة فارنكوف.

‏نقبت هذه الكورغانات بين العامين 1875 ‏- 1876 ‏م لأول مرة من قبل العالم الروسي تيزنغاوزن، وتبين له أن أربعة من الكورغانات السبعة وهي ذات الارقام ا ، 3 ‏، 5 ‏، 7 ‏، كانت منهوبة، ولم يكن فيها إلا بعض الأشياء البسيطة. أما الكورغان رقم 4 ‏فقد كان منهوبا بشكل جزئي، في حين أن الكورغان رقم 6 ‏كان سليما تماما. إن أعلى هذه الكورغانات هو الكورغان رقم 1 ويبلغ ارتفاعه خمسة عشر مترا ، أما اخفضها فهو ذو الرقم 3 ‏ويبلغ ارتفاعه نحو 20 ‏، 3 ‏م. وقد تبين من خلال فحص الكورغانات السليمة أنها كانت تحتوي على بقايا هياكل عظمية عليها أدوات زينة مختلفة: أساور، أطواق، خواتم. ..الخ، مصنوعة من معادن ثمينة مختلفة وخاصة من الذهب. كما احتوت الكورغانات على أسلحة المتوفى، هذه الأسلحة كانت إما برونزية أو حديدية. وتوجد في الكورغانات عادة غرفة مخصصة لدفن بعض خيول المتوفى، إلى جانب حجرات أخرى كانت توضع فيها أدوات مخصصة للطعام والشراب والتي كان يعتقد أن المتوفى كان سيحتاج إليها في حياته الاخرى.

تعود هذه الكورغانات للسينديين، ولا يمكن أن يكون هناك أكثر من رأي حول هذه المسالة، وربما كان المدفونون فيها من أبناء الطبقة العليا في المجتمع السيندي أو بعضا من أفراد الاسرة الحاكمة، في الوقت الذي كانت فيه سينديك الشرقية دولة مستقلة.

‏لقد شكلت هذه الكورغانات منطقة الأكروبول في مدينة سيندية قديمة (والأكروبول في المدن القديمة، هو الخصوص) . كانت المدينة المذكورة متوضعة على الضفة اليسرى لنهر الكوبان، على بعد اثني عشر كيلومترا من محطة فارنكون الحالية، أما اسمها القديم فهو غير معروف، ولذلك فإنها تعرف اليوم باسم مدينة كورغانات الإخوة السبع. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الجغرافي استرابون والذي عاش في القرن الأول ق.م، يذكر انه توجد في سينديك وليس بعيدا عن البحر مدينة اسمها أبوراك، ومن هنا فإن بعض الباحثين يعتقدون أن مدينة أبوراك هذه هي نفس المدينة التي يتوضع على قمتها كورغانات الإخوة السبع، إلا أن تأكيد ذلك يتطلب العثور على نقوش كتابية من نفس الموقع تثبت اسم المدينة القديم.

‏أدت التنقيبات الأثرية التي جرت هنا إلى الكشف عن أسوار قوية وأبنية ضخمة، إضافة إلى مساكن السكان العاديين. ويؤرخ الأثريون ظهور المدينة بنهاية القرن السادس ق.م، وأنها ازدهرت بين القرنين الخامس والرابع ق.م، ففي مطلع القرن الخامس كانت المدينة محاطة بأسوار مزودة بأبراج مستطيلة، وكانت المسافة بين البرج والآخر تراوح بين 15 - 18مترا، في حين بلغت سماكة الأسوار نحوا من 5 ‏,2 ‏م ووصلت في بعض الأماكن إلى أربعة أمتار، وقد بلغ ارتفاعها في بعض مناطق الأسرار إلى ستة أمتار، وتعرضت المدينة وخاصة أسوارها للدمار مرتين، الأمر الذي تدل عليه آثار الحريق الموجودة في الموقع، ويعود الدمار الأول إلى نهاية القرن الخامس ومطلع القرن الرابع ق.م. ومن المحتمل أن يكون هذا الدمار ناتجا من الحرب التي كانت دائرة مع مملكة البوسبور في إطار سعي هذه الأخيرة لضم المنطقة إلى سيادتها وأما الدمار الثاني فيعود إلى نهاية القرن الرابع ق.م، ومن المعلوم انه في العام 309 ‏ق.م توفي ملك البوسبور بريسادا الأول، ونشبت حرب أهلية بين أبنائه في سبيل العرش، وكان مسرح هذه الحرب مناطق الضفة اليسرى لنهر الكوبان في مجراه الأسفل ولذلك فمن المحتمل أن الدمار الثاني الذي نتحدث عنه، كان من نتائج هذه الحرب. وقد نقب داخل المدينة عن بناء ضخم، بني في نهاية القرن الرابع، واستمر السكن فيه لما يقرب من القرنين من الزمان، وبلغت مساحته نحو أربعمائة متر مربع، وتألف من خمس غرف وباحة داخلية فيها بئر ماء، ويتوقع المنقبون أن يكون للغرف الشمالية طابق ثان.

ويشيد بعض الدارسين إلى أن هذه المدينة كانت عاصمة ومقرا لملوك سينديك أولا، ومن ثم أصبحت مقرا لممثل ملك البوسبور في هذه المنطقة.

أخيرا لابد من القول إن تأثيرا كبيرا كان للقبائل السيندية في ثقافة ونمط حياة سكان مملكة البوسبور مما دفع بالكثير من المؤرخين المتأخرين إلى تسمية هذه المملكة، بالمملكة (السكيفية الإغريقية) او ( السارماتية الإغريقية) أو (نصف الميؤتية) ، آخذين بعين الاعتبار كل السكان المحليينفي المنطقة تحت مصطلح السكيف والسارمات.

المجموعات البشرية الداخلة إلى القفقاس الشمالي خلال الألف الأول ق.م

‏سنستعرض هنا ما بحوزتنا من معلومات سواء أكانت كتابية أم أثرية عن المجموعات البشرية التي دخلت منطقة القفقاس الشمالي خلال الألف الأول ق.م، مبتدئين بالمجموعة الاقدم:


  • ·        ‏- الكيميريون


تعود أقدم المصادر الكتابية عن الكيميريين إلى نحو القرن الثامن ق.م، وهي مصادر آشورية بالدرجة الأولى، حيث هاجم هؤلاء الكيميريون المناطق المتاخمة لحدود الدولة الآشورية الشمالية. وتأتينا بعد ذلك المصادر الإغريقية التي تتحدث عن الكيميريين أثناء حديثها عن مناطق شمالي البحر الأسود ومضيق كيرتش الحالي. ومن ثم لدينا بعض المصادر الفارسية التي تأتي أيضا على ذكرهم أثناء حديثها عن الحروب التي خاضها الفرس في آسيا الصغرى.

‏تصف المصادر الآشورية الكيميريين بأنهم شعب محارب كثير العدد، قدموا من أقصى شمال الارض وأما المصادر الإغريقية فيستدل منها على أن الكيميريين قد استخدموا في تحركهم من أوربة إلى آسيا ما يسمى بالطريق الميؤتي - الكولخي، أي ذلك الذي يسير بمحاذاة الشواطئ الشرقية للبحر الأسود، وللدلالة على أهمية الوجود الكيميري وقدمه في مناطق شبه جزيرة القرم الحالية، فإن المصادر الكلاسيكية وخاصة المبكرة منها تسمي مضيق كيرتش الحالي (المضيق الكيميري) وتسمي المنطقة بمجملها (البوسبور الكيميري).

‏أما المادة الأثرية فتعطينا الدليل على أن موطن الكيميريين في حدوده الجنوبية كان يقع في مطلع الألف الأول ق.م في مناطق شمال غرب القفقاس. ويقول أرتامونوف، وهو أحد كبار الباحثين في تاريخ وآثار القفقاس في أثناء حديثه عن الوقت الذي ظهرت فيه الكورغانات (إن المناطق المجاورة للكوبان كانت مركزا تاريخيا للكيميريين وإن مخلفاتهم موجودة في مناطق قريبة من شواطئ الكوبان وكذلك في مضيق كيرتش). ويقول في موضع آخر (إن الكيميريين كانوا أول من قام بحملات النهب عبر القفقاس إلى بلاد الشرق القديم).

‏وتتمثل الآثار الكيميرية التي عثر عليها في مناطق مختلفة من القفقاس الشمالي بمجموعات من السيوف البرونزية ورؤوس رماح حديدية وبرونزية إلى جانب أدوات عمل أخرى كثيرة.

  • ·        ‏- السكيف:


‏يذكر المؤرخون أن السكيف جاؤوا إلى آسيا الصغرى وشمال بلاد الرافدين على إثر القبائل الكيميرية، بعد أن طردوهم من مواطنهم في أوربة. ولكن وقبل أن نتابع في هذا المجال يجب علينا أن نتوقف عند نقطتين هامتين أولاهما من أين جاء هؤلاء السكيف؟ وثانيهما ماذا تعني هذه الكلمة؟

فيما يتعلق بموطن السكيف، فحسب الدراسات الأثرية ومن خلال تحليل بعض الأخبار الواردة في المدونات الكلاسيكية، اتفق أغلب الباحثين على أن السكيف كانوا في مطلع الألف الأول ق.م يقطنون المناطق الواقعة إلى الشمال من البحر الأسود. فالمؤلفون الإغريق أطلقوا اسم سكيثيا على كل المنطقة الممتدة مابين كرباتيا في يوغسلافيا إلى نهر الدون، ومن هنا بدؤوا بالتحرك وباتجاهات مختلفة نحو مناطق القفقاس الشمالي وشبه جزيرة القوم.

‏أما فيما يتعلق بمعنى الاسم، فأولا لابد من الإشارة إلى أن هذا الاسم لم يطلقه هذا الشعب على نفسه، وإنما اسم أطلقه الغير عليه. أما الاسم القومي لهم فهو سكولوت أو أساك. وقد ذهب الباحثون في تفسير الاسمين مذاهب شتى. فقد كان متداولا فيما مضى أن تسمية سكيف هي تسمية إغريقية أطلقت على إحدى قبائل المجموعة السكيفية، ثم عمم الاسم ليشمل كل المجموعة القبلية، ولكن هذا المفهوم تبدل الآن والمتفق عليه أن هذه تسمية جامعة لكل القبائل السكيفية من الأساس، وإذ ا ما أردنا التوضيح والمقارنة نقول إن كلمة عرب مثلا هي اسم جامع لمجموعة هن القبائل مثل قريش وتغلب وتميم وبكر وغيرها . ونعود إلى معنى الاسم لنورد بعض الآراء حوله. فمثلا الباحث مار لايوافق على اعتبار الاسم ذا أصل إغريقي، ويؤكد أنه يجب أن يكون قفقاسيا معليا دون أن يعطي تفسيرا محددا له. أما الباحث الكبير أباييف، فإنه يفسر الاسم في إطار ما يمكن أن نسميه الانتماء اللغوي للمجموعات القبلية السكيفية، ألا وهو مجموعة اللغات الهند وأوربية، ويرجع أصل الكلمة إلى الفرع الجرماني من مجموعة اللغات هذه، ويحدد معناها من الكلمة أو الفعل  " سكوت " بمعنى " يرمي " ،  رمى بالقوس. وقد أطلقها على السكيف جيرانهم الجرمان القدماء وعنهم أخذها الإغريق. وفي الواقع فإن السكيف اعتبروا من أفضل الرماة في زمانهم. ويخبو هيرودوت أن الميديين تعلموا الرماية من السكيف. ومما يشهد على أهمية الرماية يفي حياة السكيف أيضا ، كثرة الأقواس والنبال والأنصال التي عثر عليها في مختلف المواقع السكيفية.

‏أما عن التسمية الثانية ( الساك أو السوكولوت ) فان أباييف يقول إنها تعني " الأيل " والذي كان بمنزلة الحيوان الطوطمي للقبائل السكيفية، الامر الذي يفسر أيضا كثرة تصوير هذا الحيوان على مختلف الآثار السكيفية.
‏ونشير أخيرا إلى أن الباحث الشركسي المعروف حدغالثه عسكر حاول تفسير الاسم في كتابه ( ذاكرة أمة )، فبعد أن أكد انه من غير الممكن أن تكون هذه التسمية إغريقية، رأى أنها ربما تكون من أصل محلي شركسي مشتقة من الكلمة " تسف : إنسان، تسفخر : الناس ) أي أنها لا تعني مفهوما محددا وإنما مجموعة من البشر، ولذلك فإننا نميل للأخذ برأي الباحث أباييف، الذي يقدم مفهوما لغويا دقيقا للاسم.
‏ونعود إلى ما يذكره المؤرخون الكلاسيكيون وخاصة هيرودوت حول انتقال السكيف من أوربة إلى آسيا. يقول هيرودوت في تاريخه "... توغل السكيف في آسيا متتبعين الكيميريين الذين سبق وأن طردوهم من أوربة، وبملاحقتهم لهم، وصلوا بهذه الصورة إلى الأراضي الميدية. إن المسافة من بحيرة الميؤوتيين وحتى نهر فازيس وأراضي الكولخيين ثلاثون يوما لشخص راجل وهو حامل لأشياء خفيفة، ومن كولخيدا تبقى المسافة قريبة جدا من ارض الميديين...، ولكن السكيف لم يسيروا من خلال هذه الطريق بل انحرفوا إلى جهة أخرى، وساروا عبر طريق مرتفعة وأطول بكثير، واضعين جبال القفقاس عن يمينهم. وهنا اشتبك الميديون مع السكيف، ولكنهم تعرضوا للهزيمة وخسروا ممتلكاتهم، أما السكيف فقد تملكوا كل آسيا "، وفي موضع آخر يعود هيرودوت للحديث عن حملات الكيميريين والسكيف على آسيا فيقول: "ومن الجلي إن انتقال الكيميريين إلى آسيا كان بدافع الهرب من السكيفيين، فأقاموا مستوطناتهم حيث تقوم مدينة سينوب الإغريقية الآن : وليس هناك شك بان السكيفيين اخطؤوا الطريق في أثناء مطاردتهم للكيميريين فدخلوا أرض الميديين، حيث اتخذوا الطريق الداخلية، جاعلين جبال القفقاس على يمينهم، بينما التزم الكيميريون طريق الساحل، فكان أن وجد السكيفيون أنفسهم داخل ارض الميديين. وقد اتفقت روايات الإغريق والآسيويين في هذا القول".

‏من مجمل روايات هيرودوت وما يورده غيره من المؤرخين الكلاسيكيين، توصل اغلب الباحثين إلى أن الكيميريين قد تحركوا، وكما اشرنا آنفا، على طول الشواطئ الشرقية للبحر الأسود، في حين اختلف هؤلاء الباحثين فيما يتعلق بالطرق التي اتبعها السكيف اثناء عبورهم للقفقاس الشمالي. فمنهم من يرى أن هؤلاء قد استخدموا ممر دربند، أي عبر الشواطئ الغربية لبحر قزوين، طريقا رئيسا لهم.في حين يرى ناخرون أن السكيف قد عبروا القفقاس بشكل أساس عن طريق ممر دريال (باب اللان). ولكن الدلائل الأثرية تشير إلى أن السكيف في عبورهم للقفقاس قد استخدموا كل الممرات والطرق المعروفة آنذاك وخصوصا ممرات دربند ودريال وماميسون والطريق الميؤوتي الكولخيدي.

‏وحول أهمية الوجود السكيفي في القفقاس لابد من الرجوع إلى نتائج التنقيبات الأثرية وتحليل هذه النتائج، وننقل هنا ما يذكره كروبنوف في كتابه (تاريخ وحضارة قباردا القديمة) أثناء حديثه عن السكيف فيقول " في الحقيقة في الوقت الحاضر، تظهر وخصوصا في شمالي القفقاس، كمية كبيرة من المواد الثرية التي تعتبر الأكثر تمثيلا للحضارة السكيفية، التي ظهرت في سهوب جنوب روسيا بين القرنين السابع والرابع ق.م. إن عددا كبيرا من القرى والمقابر والكورغانات، وكمّا هائلا من المواد الأخرى ذات الطابع السكيفي، معروفة في مناطق السهول الجبلية وسهول منطقة ستافروبول وخصوصا في بيتغوريا وقباردا بلقاريا وأوسيتيا الشمالية والشيشان والانغوش وصولا إلى الد اغستان". ويتابع في تحليله لمجمل الآثار التي خلفها السكيف في القفقاس الشمالي ليقول "إنه نتيجة التفاعل الذي تم بين هؤلاء السكيف والعناصر المحلية، فإنه يمكن اعتبار مظاهر الحضارة السكيفية مرحلة ثانية للحضارة الكبانية التي ظهرت في مطلع الألف الأول ق.م في شمالي القفقاس". وهنا يجب أن نتوقف لنقول إن السكيف وبعد إقامتهم المؤقتة في آسيا عادوا مجددا إلى أوربة وأيضا عبر القفقاس ليؤسسوا دولة لهم في مناطق أوكرانيا الحالية، كانت على صلة مباشرة مع دولة البوسبور وشبه جزيرة تامان وذلك من خلال الحملات الشتوية التي تحدثنا عنها آنفا. وهنا أيضا لابد من الإشارة إلى أن بعض جماعات من القبائل السكيفية الذين توغلوا في آسيا أو أثناء عودتهم منها قد استقروا في مناطق مختلفة من القفقاس الشمالي الأمر الذي تشهد عليه كثرة آثارهم وخصوصا المقابر الضخمة التي عثر عليها هنا.

‏ونصل أخيرا إلى النصف الثاني من الألف الأول ق.م، حيث بدأ بالتجمع في هذه المرحلة في مناطق ما وراء الفولجا وحوالي الأورال ما يعرف في التاريخ باسم القبائل السافراماتية. وكان هؤلاء على اتصال مباشر من السكيف الذين كانون يقطنون في مناطق السهوب الروسية، ولذلك فان هيرودوت يذكر أن هؤلاء السافرامات كانوا يتكلمون لغة سكيفية محرفة. وقد بدأ السافرامات منذ القرن السادس ق.م بالتحرك في اتجاهات مختلفة وخصوصا نحو الغرب، أي نحو المناطق التي كانت تشكل في هذا العصر موطنا للقبائل السكيفية.

‏وفي القرن الرابع ق.م يلاحظ حدوث تغيرات كبيرة على المجتمع السافراماتي، يربطه المؤرخون بدخول مجموعات قبلية جديدة بين هذه القبائل، قادمة من مناطق الأورال، وانعكست هذه التغيرات في مجال الآثار بما يمكن أن نسميه ظهور الحضارة السارماتية.

  • ·        ‏- القبائل السارماتية:


‏بدأت هذه القبائل بالتحرك نحومناطق الدون ومنها إلى القفقاس الشمالي بدءا من القرن الثالث ق.م. وكما يقول سميرنوف في كتاب ذهب الكوبان القديم "إن انتشار السارماتيين في مناطق واسعة، أدى إلى انتشار مظاهر الحضارة السارماتية على مساحات واسعة، حيث تحول الكثير من العناصر المحلية غير السارماتية، إلى عناصر سارماتية، وإن التأثير السارماتي امتد ليشمل المدن الإغريقية على الشواطئ الشمالية للبحر الأسود وخصوصا مدن دولة البوسبور".

أما أهم القبائل السارماتية المعروفة وبحسب المناطق التي استوطنتها فهي : اليا زيغ، وقد استوطن هؤلاء الأطراف الغربية من منطقة السهوب الروسية وصولا إلى الدوناي، الروكس الآن وانتشر هؤلاء بين الدون والدنيبر، أما المنطقة الممتدة بين قزوين والدون فكانت من نصيب الأورس، في حين استوطن السيراك بين السهل الميؤوتي وجبال القفقاس.

‏وأما عن مدى تأثير العناصر السارماتية في العناصر المحلية، فإلى جانب ما نقلناه آنفا عن سميرنوف، فإن علماء الآثار يؤكدون انه حدثت في الفترة بين القرن الثالث والثاني ق.م تغيرات هامة في بعض العناصر الحضارية مثل ظهور أشكال جديدة من مباني الدفن ( الكاتاكومب ) والمقابر الأرضية، والتي وجدت إلى جانب النماذج المقلية القديمة. وأما من ناحية التأثير العرقي واللغوي فنستشهد بما يقوله كروبنوف في هذا المجال "... إن العناصر السارماتية الداخلة إلى مناطق الكوبان لم تؤثر كثيرا في العناصر المحلية من الناحية اللغوية على الأقل، ولكن هناك مشهد آخر نلاحظه في المناطق الواقعة إلى الشرق أكثر من القفقاس الشمالي وحتى شمال الداغستان، حيث اندمجت العناصر المحلية هنا بشكل شبه كامل مع السارماتيين، الذين كان عددهم هنا على ما يبدو اكثر بكثير...".

‏ويقول شورا بكمرزا نوغموقة عن اختلاط السارماتيين مع الاديغه "لقد بقي في ذاكرة الشعب أن بعض العائلات تعود بأصولها إلى السارمات ولذلك فإنها تحمل اسم (شارمات) ، وهنا أورد مثلا شعبيا لا يزال متداولا بين الناس، والكلام لا يزال له، والذي يدل على أن أسلافنا كانوا على صلة وثيقة مع السارمات، فعندما يحاول شخص ما موجود ضمن مجموعة من الناس أن يمزح كثيرا ويجعل الناس يضحكون فإنهم يقولون له: أنت لست شيطانا ولا شارمات فمن أين أتيت؟".

‏لقد تميز القرن الأخير من الألف الأول ق.م بتوتر العلاقة بين سكان البوسبور، بما فيهم سكان الكوبان، بروما. ففي هذا القرن خضعت مملكة البوسبور للملك البونتي ميتريدات السادس ايغباتور والذي قاد الحرب ضد الرومان. وكانت مناطق الكوبان إحدى القواعد الأساسية للقوة الحربية لميتريدات السادس، سواء من ناحية تقديم الدعم الاقتصادي أو البشري، إلا أن هذه الحرب انتهت بهزيمة ميتريدات السادس ومقتله وخضوع المنطقة بشكل أو بآخر للسيادة الرومانية.

‏وبذلك نكون قد وصلنا إلى نهاية الألف الأول ق.م ومن ثم إلى نهاية الفترة التي حددناها لبحثنا هذا. ونريد أن نختم بالقول إن التفاعل الحضاري الذي شهدته منطقة القفقاس الشمالي خلال الألف الأول ق.م بين العناصر المحلية والعناصر الوافدة، أدى إلى ظهور حضارة خلاقة في هذه المنطقة كانت نتيجة لتمازج وتلاقح ما تحمله العناصر المحلية من مخزون حضاري يعود في عمقه إلى عصور موغلة في القدم، مع ما أحضره معهم القادمون الجدد، كما أن هذا التمازج بين هاتين المجموعتين أدى إلى تأثيرات عميقة في التركيبة العرقية للقفقاس الشمالي، كان من نتيجتها ظهور مجموعات بشرية جديدة، كانت نتيجة لهذا التمازج.

( د.جباغ سيف الدين قابلو)

(مجلة إلبروز)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق