الثلاثاء، 17 يوليو 2018

اضواء على تهجير الشركس من والى البلقان


و على الشعوب البلقانية رغم قصر مدتها (من بدايات عام 1860 إلى نهاية عام 1878) حيث أن العدد الأكبر من الشركس كان قد هاجر من البلقان في نهاية عام 1878 و بقي هناك عدد أقل من ذلك. إن منطقة البلقان في الواقع كانت خاضعة للدولة العثمانية في ذلك الحين، و كانت تعتبر منطقة استراتيجية بالنسبة لها، فهي أولا كانت تمتد من سواحل البحر الأسود الغربية شرقا إلى سواحل بحر الادرياتيك غربا، كما أن نهر الدانوب كان يفصل حدود الدولة العثمانية الشمالية عن الإمبراطورية النمساوية و الممالك الرومانية المستقلة مثل: ولاشيا، مولدافيا، الافلاق و البغدان، بالإضافة إلى أن منطقة لاريسا ـ يانينا كانت تفصل الدولة العثمانية عن مملكة اليونان في الجنوب الغربي و التي استقلت عن الدولة العثمانية عام 1801. بسبب خصوبة منطقة البلقان فقد كانت تعتبر سلة غذاء بالنسبة للدولة العثمانية أضف إلى ذلك وقوعها في قارة أوربا، و كذلك كانت تعتبر البلقان بوابة شمالية غربية للعاصمة إسلام بول (استنبول) و بسبب تنوع الشعوب و اللغات و الأديان في البلقان فقد كانت مصدرا للثورات ضد الدولة العثمانية فكان لا بد من كبح جماح هذه الثورات، لهذا السبب كان أحد الجيوش العثمانية الستة متواجدا بشكل دائم في البلقان و كانت الدولة العثمانية تقوم بعمليات ترحيل و إعادة تسكين دائمة في البلقان بهدف غربلة السكان و إبقائهم ضعفاء


ازداد اهتمام الدولة العثمانية في البلقان بعد عام 1859 أي بعد هزيمتين للأتراك العثمانيين في حرب القرم و التي اشتركت فيها روسيا القيصرية و بريطانيا و فرنسا و التي خرجت منها الدولة العثمانية مهزومة و مثقلة بالديون التي استدانتها لتمويل حملتها في حرب القرم، كما أنها قد خسرت أيضا شبه جزيرة القرم التي ضُمت إلى روسيا الأمر الذي أدى ذلك إلى نزوح مئات الألوف من التتر إلى الدولة العثمانية منهم 200 ألف تتري تم إسكانهم في البلقان في مناطق شرق بلغاريا و دوبرجه في قرى تركية و بلغارية. كانت عملية تهجير التتر إلى البلقان تهدف إلى زيادة عدد المسلمين في الرومللي و استغلال الأيدي العاملة التترية في الزراعة و مد الطرقات و زيادة عدد الناطقين باللغة التركية

و بالفعل تم الاهتمام بالبلقان بعد عام 1859 حيث تم إنشاء سكة حديد تربط ما بينها و بين كونستانجا على البحر الأسود و سيرنافودا على نهر الدانوب كما تم إحضار الوالي مدحت باشا لتنظيم شؤون ولاية الرومللي. إلا أن عملية تهجير الشركس إلى البلقان كانت شيئا مختلفا عن تهجير التتر إلى البلقان، ففي البداية لا بد من ذكر أن عملية تهجير الشركس إلى البلقان لم يعرها المؤرخون الكثير من الاهتمام، بل كادت أن تكون منسية لولا وجود الوثائق البريطانية، فوزارة الخارجية البريطانية كما هو معروف تقوم بنشر الوثائق و المعلومات التي جمعتها من مختلف مناطق العالم بعد مرور مائة عام عليها ليستفيد منها الباحثون و لتكون ملكا للتاريخ، فمنذ عام 1960 و حتى يومنا هذا تقوم بريطانيا بنشر الوثائق الخاصة بالبلقان و من ضمنها تلك المتعلقة بالشركس، كما قامت بالمقابل الدول المعنية بالبلقان مثل تركيا و بلغاريا و غيرها بنشر وثائقها التاريخية المتعلقة بالفترة بدءا من عام 1860 و ما بعد ذلك و المتضمنة أحداث و تواريخ و معلومات حصلت في البلقان في تلك الفترة الأمر الذي أدى إلى تسليط الضوء على مزيد من المعلومات المتعلقة بالشركس و تهجيرهم من البلقان و فيما يلي مقتطفات من مصادر مختلفة حول تهجير الشركس: مع مطلع عام 1860 بدأ وصول المهجرين الشركس إلى البلقان و قد اشتدت موجات التهجير عام 1864 أي بعد انتهاء الحرب القفقاسية الروسية، و كانت الموانئ الرئيسية في البلقان التي استقبلت المهجرين الشركس هي الموانئ التالية: فارنا و بورجاس في ولاية الرومللي و ميناء كونستنجي في دوبروجا. و قد كان وصول المهجرين الشركس إلى هذه الموانئ من موانئ قفقاسية مثل: توآبسة و تسميز (نوفوروسك) و غيرها و كانت تقوم بنقل المهجرين الشركس سفن تركية و إنجليزية و فرنسية و روسية. كان عدد كبير من هذه السفن هو عبارة عن سفن تجارية و غير صالح للملاحة و لقد غرق عدد كبير من المراكب في البحر بسبب الحمولة الزائدة و ذُكرت قصص مرعبة عن غرق مراكب عديدة بمن عليها، و كثيرا ما كانت السفن تنزل المهجرين الشركس في شواطئ مظلمة و غالبا لم يكن معهم أي من المراقبين الرسميين. و قد ذُكر أن 25 % من المهجرين الشركس إلى البلقان قد قضوا نحبهم في الأشهر الأولى بسبب سوء التغذية و الأمراض. ذكر أحد المراقبين أن 80 ألفا من المهجرين وصلوا ميناء فارنا و وصف حالهم بقوله:"إن الشركس وصلوا فقراء معدمين يعانوا من الحمى و الدوسنطاريا، لقد كانوا على الأغلب بدون مؤونة، فقط طبيب واحد و بدون أودية، لقد تغطت الشواطئ بالموت، و قد استُخدم السجناء لدفن الموتى أو قذف جثثهم إلى البحر". بعد مرور أشهر على هذه الحالة السيئة قامت الإدارة العثمانية بتوزيع آخر للشركس من سواحل البحر الأسود إلى داخل اليابسة حيث قام العثمانيون بنقل المهجرين من شواطئ البحر الأسود بالعربات و القطارات إلى ميناء سيرانافودا على نهر الدانوب، و من هناك استعملوا سفنا صغيرة تسير على نهر الدانوب إلى موانئ أخرى تقع على هذا النهر مثل: سومن، تولشا، سيليستر، لوم، فيدين، رنسي، سفيستور، نيكوبوليس و من هذه الموانئ وزع جزء من الشركس داخل البلاد إلى مناطق مثل: صوفيا، نيش، سكوبيا و كولارفجاردا. و قد أسكن آخرون في مناطق: مسادونيا، تراس، ما حول سالونيكا، سيررش، لارسا و قد قام العثمانيون بتوزيع الشركس في المناطق المذكورة في قرى بلغ عددها المئات تمتد من سواحل البحر الأسود إلى سواحل بحر الادرياتيك

بالنسبة لأعداد المهجرين الشركس إلى البلقان فإن التقديرات تشير إلى أنه يتجاوز النصف مليون شخص، و ذكرت المصادر البلغارية أنه قد تم إسكان 250 ألف شركسي على الأقل في الرومللي، و هي المناطق التي تشكل بلغاريا الحالية، هذا بالإضافة إلى دوبروجا التي تقع حاليا ضمن رومانيا و التي قُدِّر عدد الشركس و التتر فيها بـ 130 ألفا من أصل 179 ألفا في ذلك الحين. كما استقبلت مناطق مثل مقدونيا و كوسوفو و البوسنة و الهرسك التي أصبحت يوغوسلافيا فيما بعد 200 ألف شركسي، إلى جانب منطقتي لاريسا و سالونيك اللتان أصبحتا فيما بعد تشكلان جزءا من اليونان و قد استقبلتا عددا غير معروف من الشركس. و من الملاحظ أن توزع الشركس في البلقان جاء وفق ما تقتضيه المصلحة العثمانية، فقد جرى توزيعهم على طول نهر الدانوب ابتداء من
Nikopolis, Ruse, Si-listre, Cernavoda, Hirsova, Mecidia, Macin, Salina, Tolcha Vi-din, Kum,
و ذلك كي يُشكِّل الشركس خط دفاع أول في حالة الهجوم على الدولة العثمانية و اختراق نهر الدانوب، بينما قاموا بتوطين التتر في مناطق داخلية و آمنة، و كانت المسافة التي تفصل بين القرى الشركسية تبلغ مسافة مسير يوم واحد لتكون عملية مواجهة أي طارئ و استدعاء المقاتلين سريعة, و قام العثمانيون بإنشاء فرق "الباش بوزاق" و هي كتائب غير نظامية مهمتها حماية الأمن الداخلي، و قد شكل الشراكسة أغلب عناصرها. أدى هذا التوزيع السيئ للشركس إلى أن يكونوا على احتكاك دائم مع السكان الأصليين و خاصة البلغار، كذلك أدى عدم الاستقرار النفسي للشركس إلى عكوفهم عن الزراعة و بالتالي سوء أحوالهم المعيشية مما أدى إلى ثورتهم على الدولة العثمانية نفسها عام 1867،و قد أحضر العثمانيون مئات الفرق لإخضاعهم. كان معظم الشركس في البلقان ينتمون إلى قبيلتي الأبزاخ و الشابسوغ بالإضافة إلى عدد أقل من ذلك كانوا من قبائل الأبخاز الذين وصل بضعة لآلاف منهم إلى البلقان عام 1876، و في عام 1877 اندفع 300 ألف جندي روسي عبر Ruse على نهر الدانوب إلى داخل حدود الدولة العثمانية منهين بذلك حكم العثمانيين في البلقان الذي استمر على مدى أربعة قرون. و بحلول عام 1878 كانت القوات العثمانية قد انهارت تماما أمام القوات الروسية، و يجب أن نذكر هنا أن 15 ألفا من الخيالة الشركس قد اشتركوا في الحرب النظامية في جبهة البلقان. كما يجدر بنا أن نذكر بأن ألفين من المقاتلين الشركس قد دافعوا عن مدينة بلفن عندما حاصرتها القوات الروسية و الرومانية و ذلك بقيادة غازي عثمان باشا و ميرزا باشا، كما اشتركت قوات مصرية في الحرب تحت قيادة ضباط من الشركس إلى جانب القوات العثمانية، هذا بالإضافة إلى فرق الباش بوزاق التي شكل المتطوعون الشركس أغلب عناصرها. و قد استغل البلغار هجوم الروس فقاموا بالتعاون معهم بأعمال قتل جماعية ضد المسلمين عامة كما قام الصرب بنفس الشيء حيث أخذوا يقتلون كل من هو مسلم في المنطقة التي أصبحت خاضعة لهم (منطقة نيش) و قد بلغ مجموع ضحايا المسلمين في البلقان ما بين عامي 1877 ـ 1878 نحو 200 إلى 300 ألف حسب التقديرات البريطانية، و قد ذكر أحد البريطانيين واصفا المعاملة التي لقيها المدنيون المسلمون على أيدي الروس و البلغار والصرب من قتل و دمار بأنها لم تحصل في أوربا منذ عهد البرابرة الذين سادوا أوربا في العصور القديمة. و قد حصلت كل من بلغاريا و صربيا على الاستقلال من الدولة العثمانية و طُرِدَ مليون و نصف مسلم من البلقان إلى مناطق أخرى من الدولة العثمانية منهم 150 ألف شركسي حسب ما تذكره المصادر العثمانية، و من الملاحظ أن أشد المناطق التي ارتكبت فيها أعمال القتل و الدمار كانت منطقة نيش في صربيا و وادي تونجا في بلغاريا. بقي عدد آخر من الشركس في البلقان في مناطق مختلفة لم يغادروها في تلك الفترة بسبب استمرار خضوعها للحكم العثماني، لكن حصلت هجرات أخرى منذ ذلك الوقت و حتى يومنا هذا للمسلمين كافة و منهم الشركس أيضا، و نورد هنا الهجرات المختلفة التي حصلت من البلقان للمسلمين حتى الآن: هاجر من بلغاريا ما بين عامي 1893 ـ 1902 نحو 172 ألف مسلم توجه معظمهم إلى تركيا، و بين عامي 1908 ـ 1913 قامت بلغاريا باحتلال ساحل البحر الأسود منطقة بورجس حيث كان يعيش عدد من الشركس، و قد تم تهجير عدد كبير من المسلمين آنذاك. موجة أخرى للتهجير خضع لها المسلمون عام 1924 ما بين عامي 1949 ـ 1951 حيث طُرِدَ 152 ألف تركي إلى تركيا، و من الجدير بالذكر أن بلغاريا و بعد عام 1921 أخذت تطلق اسم تركي على كل من هو مسلم بغض النظر عن أصله العرقي، و كذلك فإن الإحصائيات السكانية في بلغاريا التي سبقت عام 1949 ذكرت الشركس تحت اسم القفقاسيين. و كانت الهجرة الأخيرة للمسلمين من بلغاريا عام 1985 حيث تم طرد 350 ألف شخص إلى تركيا منهم أعداد كانوا من أصل تركي. و بالنسبة لليونان فإن حوالي 370 ألف مسلم قد تم ترحيلهم إلى تركيا من المناطق الشمالية لليونان حول لاريسا و سيريس و سالونيكا و التي هي من المناطق التي سكنها الشركس منذ بدايات عام 1864. أما فيما يخص يوغوسلافيا فإن مملكة الصرب التي استقلت عن الدولة العثمانية عام 1878 قد رحَّلت بقية المسلمين من شمال مقدونيا حول نيش و هي مناطق سبق و أن سكنها الشركس و قد هاجر عدد كبير من الشركس من إقليم كوسوفو بعد أن احتلته الإمبراطورية النمساوية عام 1913. قدَّر أحد المؤرخين النمساويين عدد الشركس في إقليم كوسوفو و البوسنة و الهرسك في ذلك الحين بنحو 300 ألف شخص. ما بين عامي 1955 ـ 1960 غادر آلاف الشركس الذين بقوا في إقليم كوسوفو إلى تركيا، كما كان من المتوقع أن يغادر العدد القليل من الشركس الذين يعيشون في عدة قرى حول مدينة بريشتين إلى القفقاس لدى اندلاع الحر ب في الإقليم (استطاعت حكومة جمهورية الأديغة سحب 21 عائلة شركسية يتجاوز عدد أفرادها 85 فردا من كوسوفو عام 1998). و بالنسبة لإقليم دوبرجا الذي أصبح واقعا ضمن دولة رومانيا بعد عام 1878 فقد غادره معظم الشركس و التتر إلى تركيا في ذلك الحين








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق